أسماء الله الحسنى التي وردت في القرآن والسنة تمثل الهيكل التربوي للمسلم قال سبحانه وتعالى : ﴿وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾ [الأعراف : 180]، والأسماء التي وصف الله بها نفسه في كتابه أكثر من 150 اسمًا وقد ورد في السنة أكثر من 160 اسمًا ومجموعهما 220 اسمًا بعد حذف المكرر، وهذه الأسماء والصفات يمكن تقسيمها إلى صفات جمال : كالرحمن والرحيم، والعفو الغفور، وصفات جلال : كالمنتقم الجبار، الشديد المحال، وصفات كمال : كالأول والآخر والظاهر والباطن.
والاسم الذي معنا هذه المرة هو [المؤمن] وقد ورد اسم الله المؤمن في القرآن الكريم ضمن مجموعة أسماء في قوله تعالى : ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِى لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [الحشر :23]. ولم يرد المؤمن باعتباره اسما من أسماء الله تعالى إلا في هذا الموضع
والله المُؤْمِنُ لأنه آمنَ عباده من أن يظلمهم، وأمنهم من الخوف، ولأنه سبحانه يصدق الصادقين المؤمنين على نحو قوله تعالى : ﴿وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ﴾ [التوبة :61]. وقوله تعالى : ﴿قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ﴾ [المائدة :119].
وعليه فالمؤمن في حق الله من الأمن فهو أمان الخائفين، ومن الصدق فهو الذي يصدق الصادقين ويجزيهم على صدقهم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم : «عليكم بالصدق فإن الصدق يهدى إلى البر وإن البر يهدى إلى الجنة وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا» [رواه مسلم].
وأيا كان الاشتقاق [الأمن أو الإيمان] فإن هذا الاسم يندرج تحت القسم الأول وهو قسم الجمال، وهو يمثل معادلة لقسم صفات الجلال إذ محصلة صفات الجلال إحداث الخوف من الله في قلب المسلم وبعد حدوث الخوف يحتاج المؤمن إلى أمان الله يؤمنه ويجيره من العذاب، كما ورد في الدعاء الذي سمعه النبي صلى الله عليه وسلم من الخضر، فعن أنس بن مالك قال : خرجت مع رسول صلى الله عليه وسلم في بعض الليالي أحمل له الطهور : «إذ سمع مناديا. فقال يا أنس : صه. فقال : اللهم أعني على ما ينجيني مما خوفتني منه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لو قال أختها، فكأن الرجل لقن ما أراد رسول الله. فقال : وارزقني شوق الصادقين إلى ما شوقتهم إليه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : حيا يا أنس، ضع الطهور، وائت هذا المنادي، فقل له أن يدعو لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعينه على ما ابتعثه به، وادع لأمته أن يأخذوا ما أتاهم به نبيهم بالحق...» [رواه الطبراني في الأوسط]. والشاهد قول الداعي : « اللهم أعني على ما ينجيني مما خوفتني منه».
فالله سبحانه وتعالى هو الذي يخوف عباده، إذ الخوف منه من صفات عباده المؤمنين، والخوف من غيره من صفات أولياء الشيطان قال تعالى : ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوَهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران :175]. وقال سبحانه : ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ [الزمر :36]. ويخوف ربنا بذكر جزاء المكذبين في الآخر من النار وأهوالها قال تعالى : ﴿لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ﴾ [الزمر :16].
والله سبحانه وتعالى يؤمن عباده من ذلك الخوف إذا ما رجعوا إليه وكان رجاؤهم فيه سبحانه، فهو يذكرهم بصفاته جماله، قال تعالى : ﴿أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [البقرة :218]. وامتدح الله عباده المؤمنين بأن رجائهم فيه وأن غير المؤمنين لا رجاء لهم، فقال تعالى: ﴿وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ [النساء :104]، وذم الله الذين لا يرجون لقاءه سبحانه فقال تعالى : ﴿إِنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ﴾ [يونس :7]
والمتأمل في قضية الخوف والرجاء وقبلهما الحب يجد أن هناك علاقة متداخلة ومترابطة بين حب الله والرجاء فيه، والخوف منه من جهة وبين أقسام أسماء الله من حيث الكمال والجمال والكمال من جهة أخرى، فغاية الإيمان أن يمتلأ قلب المسلم بحب الله، ورجاءه، والخوف منه، ولذا فهناك من السلف من مثل الإيمان بطائر رأسه المحبة، وأحد حناحيه الرجاء، والآخر الخوف. وليطير العبد لربه لابد من صحة الرأس والجناحين.
فأسماء الله الحسنى بأقسامها الثلاثة تلتقي وتغذي الإيمان بجوانبه الثلاثة، فقسم الكمال من أسماء الله الحسنى يلتقي مع الحب فيغذيه وينميه وهو رأس الطائر، وقسم الجمال يلتقي مع الرجاء فيغذيه وينميه كذلك وهو أحد جناحي الطائر، وقسم الجلال يلتقي مع الخوف فيغذيه وينميه أيضا وهو الجناح الآخر للطائر.
وحتى يسير العبد لربه بشكل سليم لابد من المحافظة على الاتزان والتوازن فلا يغفل أحد هذه المكونات ولا يغلب أحدها على الآخر.
ويحسن به عند الوقوع في الزلات أن يعلي من جانب الرجاء بقسم الجمال من أسماء الله الحسنى، فإن الله ربط بين الوقوع في الزلل والإسراف على النفس وبين جماله وعفوه وغفرانه فقال : ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزمر :53]، فيساعده ذلك على التوازن، ولذا ترى أهل الله يحذرونا من نقصان الرجاء عند الوقوع في الزلات مما له من أثر سيء في الإياس من الغفران، يقول سيدي ابن عطاء الله السكندري : «من علامات الاعتماد على العمل نقصان الرجاء عند وجود الزلل».
ويحسن بالسالك أن يغلب جانب الخوف عند فعل الطاعات، وقد بين لنا ربنا هذا المنهج في كتابه، فقال تعالى : ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ﴾ [المؤمنون :60].
فاسم الله المؤمن من أقسام الجمال، ويلجأ إليه المسلم إذا خاف من عقاب الله أو من عذابه أو من بطش أحد من خلقه، فربنا سبحانه هو القادر على نجدة عبادة ولا مغيث غيره، كما أنه سبحانه وتعالى هو الذي يصدق الصادقين ويثبت بالقول الثابت في الحياة الدنيا والآخرة، وأمرنا سبحانه أن نكون منهم ومعهم، فقال تعالى : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [التوبة :119].
فيحدث الإيمان بالله المؤمن سبحانه استقرارا في القلب بعد اضطراب الخوف، ويحدث توازنا وانشراحا في قلب المسلم، نسأل الله أن يرزقنا حسن الإيمان به، وصدق الإيمان به، إنه ولي ذلك والقادر عليه وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
تكلمنا في المقالة السابقة عن اسم الله القدوس، واليوم نتكلم عن اسم الله السلام، وكما علمنا من قبل أن أسماء الله الحسنى تنقسم إلى ثلاثة أقسام، القسم الأول : هو قسم الجمال مثل الرحمن الرحيم العفو الغفور الرءوف. والقسم الثاني : هو قسم الجلال مثل الجبار المنتقم المتكبر شديد المحال العظيم. والقسم الثالث : هو قسم الكمال، مثل لفظ الجلالة ومثل الأول الآخر، الظاهر الباطن، الضار النافع، المعطي المانع.
وأوضحنا أن علاقة المسلم بهذه الأقسام هي التخلق لقسم الجمال، والتعلق لقسم الجلال، والحب والتصديق لقسم الكمال.
والسلام في حق الله تعني السالم من كل عيب ونقص ينافي كماله وجماله المطلق، وجلاله، فهو الذي يسلم عباده من كل سوء ويحفظهم وينشر عليهم السلامة والأمن في بدنهم وفي بلادهم وفي قلوبهم وأرواحهم.
والسلام من أسماء الله التي تتبع قسم الجمال، والذي علاقة المسلم معه التخلق، على حد قول الصالحين وهم يفسرون قوله تعالى : ﴿كونوا ربانيين ﴾ [آل عمران :79] أي « تخلقوا بأخلاق الله». فالمسلم لابد أن يسلم نفسه ويزكيها من كل النقائص والعيوب، كما أنه لابد أن يسلم الناس من شروره، يقول النبي صلى الله عليه وسلم : «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده» [رواه مسلم]. فالتخلق بالسلام مع النفس ومع الأهل والناس أجمعين يحقق مراد الله على أرضه من نشر الحق والعدل والإيمان.
ويعتقد المسلمون أن السلام قضية متكاملة تحيطهم من كل جانب، فهم يؤمنون بأن السلام اسم خالقهم سبحانه وتعالى، قال سبحانه : ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِى لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [الحشر :23].
ويؤمنون بأن طُرق ربهم وسبله هي طرق السلام وسبله، وأن الله يهدي من اتبع رضاه هذه السبل، قال تعالى : ﴿يَهْدِى بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ [المائدة :16].
ويؤمنون أن الجنة جزاء المؤمنين يوم القيامة هي دار السلام، وموطن السلامة الأبدية من كل خوف وحزن، قال تعالى : ﴿لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام :127]. وقال سبحانه : ﴿وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِى مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ [يونس :25].
ويؤمنون أن أعظم ليالي الدهر التي تتنزل فيها الملائكة ويستجاب فيها الدعاء والعبادة فيها خير من عبادة ألف شهر، هي ليلة سلام حتى نهايتها، قال تعالى : ﴿سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الفَجْرِ﴾ [القدر :5].
ويؤمنون أن السلام حالة يحتاجها الإنسان في كل وقت وحين، ويشتد احتياجه لها في وقته مولده ووقت موته، ووقت بعثه، ولذا يحكي القرآن عن الأنبياء ومنهم عيسى عليه السلام أنه قال : ﴿وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وَلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًا﴾ [مريم :33]، وأكد الله أن المؤمن في وقت الاحتضار يحتاج السلام منه سبحانه ومن الصالحين فقال تعالى : ﴿وَأَمَّا إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ اليَمِينِ * فَسَلامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ اليَمِينِ﴾ [الواقعة :90].
ويؤمنون بأن قول السلام يطمئن المؤمنون ويتبعه رحمة الله سبحانه وتعالى، ولذا خاطب ربنا نبيه في القرآن، فقال سبحانه : ﴿فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [الأنعام :54]
ويعتقد المسلمون كذلك أن السلام بشرى المؤمنين عند الوفاة وتحيتهم في الجنة من الملائكة الكرام، قال تعالى : ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [النحل :32]. بل إنهم لا يسمعون في الجنة إلا السلام، قال تعالى : ﴿لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلاَّ سَلامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًا﴾ [مريم :62]، كما إنهم يعتقدون أن السلام هو تحيتهم عند لقاء السلام سبحانه وتعالى : ﴿تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا﴾ [الأحزاب :44]. وقال تعالى : ﴿دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ﴾ [يونس :10]. وقال سبحانه وتعالى : ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾ [الرعد :23]. وقال تعالى : ﴿وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ﴾ [إبراهيم :23]. وقال سبحانه ﴿إِنَّ المُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ﴾ [الحجر :45].
كما أن السلام هو تحية الأنبياء والملائكة في الحياة الدنيا : ﴿وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ﴾ [هود :69].
ويعتقد المسلمون أن الصبر على الأذى والدعاء بالسلامة لمن يجهل عليهم هو السلوك القويم، والخلق العالي، يقول سبحانه : ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا﴾ [الفرقان :63]، فهم دائما يعفون ويصفحون ويسالمون الناس، اقتداء بنبيهم حيث أمره ربه بذلك فقال تعالى : ﴿فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ [الزخرف :89].
كما أنهم يعتقدون أن السلام هي الكلمة الأخيرة التي يختم المسلمون صلاتهم وهم يعتقدون أنهم عندما يختمون الصلاة يواجهون الحياة، فكأنهم يواجهنا أول ما يواجهنا به بالسلام.
والسلام عندهم ضد الحرب، وهناك دعوة صريحة واضحة في القرآن الكريم في شأن أولئك الذين يعتدون على الناس وعلى المسلمين يقول فيها القرآن الكريم ﴿وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ﴾ [الأنفال :61]. وهناك دعوة صريحة في القرآن الكريم يقول فيها الله سبحانه وتعالى : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِى السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾ [البقرة :208] وهي آية تدل على أن السلام من الرحمن وأن ضده من الشيطان.
واليهود يحسدوننا على السلام كلمة نفشيها فيما بيننا وفيما بيننا وبين العالمين، فعن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت : (بَيْنَا أَنَا عِنْدَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم إِذِ اسْتَأْذَنَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ فَأَذِنَ لَهُ فَقَالَ السَّامُ يا محمد فقال : النبي صلى الله عليه وسلم وعليك. فقالت عائشة : فهممت أن أتكلم فعلمت كراهية النبي صلى الله عليه وسلم لذلك فسكت. ثم دخل آخر فقال: السام عليك. فقال : وعليك. فهممت أن أتكلم فعلمت كراهية النبي صلى الله عليه وسلم لذلك. ثم دخل الثالث فقال : السام عليك. فلم أصبر حتى قلت : وعليك السام وغضب الله ولعنته إخوان القردة والخنازير أتحيون رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لم يحيه الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله لا يحب الفحش ولا التفحش قالوا قولا فرددنا عليهم إن اليهود قوم حسد وهم لا يحسدونا على شيء كما يحسدونا على السلام وعلى آمين ». [رواه أحمد والبخاري ومسلم والترمذي واللفظ لابن خزيمة].
فالسلام في الإسلام قضية عقائدية سلوكية تعبدية تحيط بالمسلمين في كل حياتهم، ومما يشاع عن الإسلام بغرض الإساءة إليه في هذه الأيام أنه دين إرهاب أو قتل، ويحاولون جاهدين أن يلصقوا الأعمال الإجرامية بتعاليم ذلك الدين السمح.
رغم أن الإسلام نظر إلى الآخر (أو لغير المسلم) منذ نشأته الأولى نظرة تكامل وتعاون، وكيف لا وكان الآخر في أول الدعوة الإسلامية هو مجموع البشر إلا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فكيف لدين لا يقوم على التسامح والتعاون ينتشر هذا الانتشار الرهيب الملحوظ في سنوات معدودة بين العرب ويستمر عبر القرون، ويقود الإنسانية بأسرها قروناً عدة إلى فضائل الأخلاق وتعمير الأرض ؟
وقد وضع الإسلام قواعد واضحة للعائلة البشرية؛ حيث أعلن أن الناس جميعاً خلقوا من نفس واحدة، مما يعني وحدة الأصل الإنساني، فقد قال الله تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِه وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبا ًً﴾ [النساء : 1]، والناس جميعاً في نظر الإسلام هم أبناء تلك العائلة الإنسانية، وكلهم له الحق في العيش والكرامة دون استثناء أو تمييز، فالإنسان مكرم في نظر القرآن الكريم، دون النظر إلى دينه، أو لونه، أو جنسه، قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا ﴾ [الإسراء :70].
ودستور الإسلام في التعامل مع غير المسلمين يتلخص في قوله تعالى : ﴿ لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ ﴾ [الممتحنة : 8] ، فالآية واضحة في أننا نحن المسلمين عندما لا يريد الآخرون أن ينضموا إلى مدرسة الإسلام، فعلينا صلتهم، والعدل معهم، ومعاملتهم المعاملة الطيبة، بناءً على مبدأ الاحترام المتبادل، والعلاقات الإنسانية والمصالح المشتركة.
فالإسلام دين سلام ولم ينتشر بالسيف والقتال، نصوصه تشهد بذلك، وتعاليمه تؤكد ذلك، وخير شاهد تقتنع به عقول غير المسلمين هي شاهد التاريخ، فإن تتبع انتشار الإسلام في أهم أقطاره تؤكد تلك الحقيقة.
في المائة عام الأولى من الهجرة كانت نسبة انتشار الإسلام في غير الجزيرة كالآتي ففي فارس (إيران) كانت نسبة المسلمين فيها هي 5% وفي العراق 3% وفي سورية 2% وفي مصر 2% وفي الأندلس أقل من 1%
أما السنوات التي وصلت النسبة المسلمين فيها إلى 25% من السكان فهي كالآتي:ـ
إيران سنة 185 هـ ـ العراق سنة 225 هـ ـ سورية 275 هـ ـ مصر 275 هـ ـ الأندلس سنة 295هـ
والسنوات التي وصلت نسبتهم فيها إلى 50% من السكان كانت كالآتي :
بلاد فارس 235 هـ ـ والعراق 280 هـ ـ وسورية 330 هـ ـ ومصر 330هـ والأندلس 355 هـ
أما السنوات التي وصلت نسبة المسلمين فيها إلى 75% من السكان كانت كالآتي
بلاد فارس 280 هـ ـ والعراق 320 هـ ـ وسورية 385 هـ ـ ومصر 385 هـ والأندلس سنة 400 هـ.
فالله هو السلام، وديننا دين السلام، والمسلمون هم دعاة السلام، وينادون في كل المحافل الدولية في عصرنا الحديث بالسلام القائم على العدل، سلمنا الله من كل سوء وسلم أوطاننا وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
علمنا أن أسماء الله الحسنى تنقسم إلى ثلاثة أقسام، القسم الأول : هو قسم الجمال مثل الرحمن الرحيم العفو الغفور الرءوف. والقسم الثاني : هو قسم الجلال مثل الجبار المنتقم المتكبر شديد المحال العظيم. والقسم الثالث : مثل لفظ الجلالة ومثل الأول الآخر، الظاهر الباطن، الضار النافع، المعطي المانع.
وعلاقة الإنسان بكل قسم من هذه الأقسام تختلف، فبالنسبة لقسم الجمال العلاقة هي التخلق، على حد قول الصالحين وهم يفسرون قوله تعالى : ﴿كونوا ربانيين ﴾ [آل عمران :79] أي « تخلقوا بأخلاق الله» وهي مقولة شاعت على ألسنة الصالحين، وليست بحديث نبوي كما توهمه بعضهم، وفضل بعض العلماء أن نقول تعبدوا بأخلاق الله، بدلا من تخلقوا؛ لأن الإنسان إذا أراد الثواب والرضا من الله فإنه لابد وأن يحسن النية وأن يفعل هذا لوجه الله مخلصا له الدين، قال تعالى : ﴿مخلصين له الدين﴾ [البينة :5] وقال صلى الله عليه وسلم : «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» [رواه البخاري ومسلم].
أما التعامل مع القسم الثاني، وهو قسم الجلال فيكون بالتعلق حيث نهانا الله عن التكبر، والتعظم، وقال في الحديث القدسي العظمة : «العظمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني واحدا منهما ألقيته في النار» [رواه ابن أبي شيبة في مصنفه]. أما التعامل مع القسم الثالث، وهو الكمال فذلك يكون بالإيمان والتصديق.
والاسم الذي معنا هذه المرة هو اسم الله «القدوس» وهو المنزه عن كل النقائص، والُمطهر عن كل ما لا يليق بذاته العالية، وهو لغة من التقديس أي التطهير، والقدس بسكون الدال وضمها تعني الطهر، والقداسة تعني الطهر والبركة، وقدَّس لله بالتشديد أي طهر نفسه بعبادته وطاعته وعظمه، ومنه قول الملائكة لربهم : ﴿قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّى أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة :30].
فالله القدوس : أي الطاهر المنزه عن كل ما يليق به من نقائص، فهو المتصف بكل صفات الكمال والجمال والجلال، ولا يتصف بغير تلك الصفات.
وقد ورد هذا الاسم في الكتاب العزيز في موضعين، الموضع الأول في سورة الحشر قال تعالى: ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِى لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [الحشر :23].
والموضع الثاني في سورة الجمعة، قال سبحانه : ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَوَاتِ وَمَا فِى الأَرْضِ المَلِكِ القُدُّوسِ العَزِيزِ الحَكِيمِ﴾ [ الجمعة :1].
واسم الله القدوس يمكن أن نعتبره من القسم الأول من الأسماء الحسنى، أي إنه من قسم الجمال الذي يتعامل المسلم معه بالتخلق والتحلي، فالمسلم مطالب بالتقدس أي التطهر، وقد درج الفقهاء والمحدثون على افتتاح كتبهم بكتاب الطهارة، والطهارة : في اللغة هي النظافة. والله سبحانه وتعالى يحب النظافة، ويحب الجمال، ويحب التطهر وأمر عباده بالتطهر الدائم والمستمر من الأدران الظاهرة والباطنة، لأن المسلم دائما يراقب قلبه ويطهره لله، كما يراقب بدنه وثوبه ويطهره، والمسلم عن قلبه الطاهر المتطهر بمظهره، قال تعالى ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ﴾ [البقرة :222]
وأما الطهارة عند الفقهاء فلها معنى زائد عن المعنى اللغوي فيعرفونها بأنها : فعل ما يجعل الإنسان قادرًا على أداء الصلاة كالوضوء، والغسل والتيمم وإزالة النجاسة. وقد استنبط العلماء ذلك التعريف من قول النبي صلى الله عليه وسلم : « لا تقبل صلاة بغير طهور » [رواه البخاري ومسلم]، وقد اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم الطهارة نصف الإيمان حيث قال : « الطهور شطر الإيمان » [أحمد ومسلم والترمذي].
وطهارة البدن التي عرفها الفقهاء ليست هي كل الطهارة، بل وليست هي أهم أنواع الطهارة التي أرادها الله من عباده، ولذلك نرى الغزالي في الأحياء يتكلم عن تلك الأنواع فيقول: «الطهور أربعة أنواع، طهارة البدن من الحدث والخبث، وطهارة الجوارح من المعاصي والآثام، وطهارة النفس من الصفات المذمومة، وطهارة القلب مما سوى الله» .
فطهارة القلب وهي الأهم تعني أن يخلو القلب من السوى، وهو كل ما سوى الله، فالقلب بيت الرب، قال تعالى : ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِى جَوْفِهِ﴾ [الأحزاب :4] ، وطهارة النفس أن تخلو من الصفات المذمومة كالبخل والحسد والحقد والضغينة والكبر والأثرة.
أما طهارة الجوارح من المعاصي فكل جارحة بحسب طبيعتها وما يجب عليها، فالعين طهارتها ألا تنظر إلى ما حرم الله أن يُنظر إليه عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : «عَيْنَانِ لا تَمَسُّهُمَا النَّارُ، عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» . [رواه الترمذي]
والعلماء قالوا : ما حرُم فعله حرُم استماعه، وما حرُم استماعه حرُم النظر إليه! طهارة الأذن ألا تستمع بها ما حرم الله أن تستمع إليه من كذب وغيبة ونميمة وكفر وإلحاد، وطهارة اللسان ألا ينطق بالغيبة، ولا بالنميم ، ولا بالكذب ، ولا بالفحش، ولا باللعن ، ولا بالإيقاع بين الناس .
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «لا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ ، عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ ، وَلا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ ، حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ ، وَلا يَدْخُلُ رَجُلٌ الْجَنَّةَ لا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ» [رواه أحمد] .
فالله طلب من المؤمن التقدس والتطهر على كل المستويات، فعلى مستوى الظاهر قال تعالى: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾ [المدثر :4، 5]، وقال لنبيه إبراهيم عليه السلام : ﴿وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ [الحج :26].
كما أوضح لنا ربنا أن تشريعاته جاءت لتطهير القلب والنفس، قال تعالى : ﴿ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة :232] ﴿ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ﴾ [الأحزاب :53]. وقال تعالى : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [المجادلة :12].
ما سبق يوضح لنا أن اسم الله القدوس ينشئ مدرسة تربوية يتربى فيها المسلم ويتطهر من أمراض القلب وخبث النفس، وينظف باطنه قبل ظاهره، فهو اسم من قسم الجمال.
كما يمكن أن ننظر لاسم الله القدوس على اعتباره من قسم الكمال، فيتعامل المسلم معه بالحب والإيمان فبعلمه أنه سبحانه هو القدوس تميل نفسه إليه، ويتعلق قلبه به سبحانه وتعالى حيث يعلم أن الحق عز وجل مبرأ من كل عيب أو نقص يتعارض مع كماله المطلق، فالكمال المطلق للحق تبارك وتعالى يقتضي كمال صفاته العلية، وهذا يعني أن جميع صفات الله عز وجل مطلقة.
فنعلم أنه اسمه القدوس يقتضي أنه مطهر عن النقص والعجز في الصفات، وكون جميع صفاته مطلقة، أي تبلغ منتهى الكمال في الوصف، فرحمته مطلقة وعلمه مطلق، وحكمته مطلقة وسمعه مطلق، وعزته مطلقة وعدله مطلق، وهكذا شأن جميع صفاته تبارك وتعالى.
نسأل الله الطهر والعفاف والغنى، وأن نكون من المقدسين له في كل وقت وحين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
في الحديث عن أسماء الله الحسنى نحتاج دائما أن نؤكد على أنها تنقسم إلى ثلاثة أقسام، القسم الأول : هو قسم الجمال مثل الرحمن الرحيم العفو الغفور الرءوف. والقسم الثاني : هو قسم الجلال مثل الجبار المنتقم المتكبر شديد المحال العظيم. والقسم الثالث : هو قسم الكمال، مثل لفظ الجلالة ومثل الأول الآخر، الظاهر الباطن، الضار النافع، المعطي المانع.
وعلاقة الإنسان بكل قسم من هذه الأقسام تختلف، فبالنسبة لقسم الجمال العلاقة هي التخلق، على حد قول الصالحين وهم يفسرون قوله تعالى : ﴿كونوا ربانيين ﴾ [آل عمران :79] أي « تخلقوا بأخلاق الله» وهي مقولة شاعت على ألسنة الصالحين، وليست بحديث نبوي كما توهمه بعضهم، وفضل بعض العلماء أن نقول تعبدوا بأخلاق الله، بدلا من تخلقوا؛ لأن الإنسان إذا أراد الثواب والرضا من الله فإنه لابد وأن يحسن النية وأن يفعل هذا لوجه الله مخلصا له الدين، قال تعالى : ﴿مخلصين له الدين﴾ [البينة :5] وقال صلى الله عليه وسلم : «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» [رواه البخاري ومسلم].
أما التعامل مع القسم الثاني، وهو قسم الجلال فيكون بالتعلق حيث نهانا الله عن التكبر، والتعظم، وقال في الحديث القدسي العظمة : «العظمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني واحدا منهما ألقيته في النار» [رواه ابن أبي شيبة في مصنفه]. أما التعامل مع القسم الثالث، وهو الكمال فذلك يكون بالإيمان والتصديق.
والملك من أسماء الله الحسنى التي يمكن أن تتبع قسم الجلال، فهو من الأسماء التي تستلزم من المسلم أن يتعلق بها، والملك لغة : من مَلَكَ الشيء أي حازه وانفرد باستعماله أو التصرف فيه والاسم مالك، وأملكه الشيء أو ملكه الشيء أي جعله ملكا له، وتملك الشيء أي امتلكه.
أومن المُلك وهو لغة: احتواء الشيء والقدرة على الاستبداد به والتصرف بانفراد.
ولأن الكون بما فيه ملك لله ابتداء لأنه أوجده من عدم، والمَلِكُ باقٍ فهو لا يموت وهو يملك كونه، وإنما أذن لعباده بالتصرف والانتفاع في ملكه هذا بشرط أن يطيع الإنسان أوامر الله ونواهيه. كل هذه المعاني تبين أنه لا يملك إلا الله على الحقيقة، وأن قولنا فلان مالك لهذا من باب المجاز؛ ولذا نرى البسطاء في أيامنا هذه إن قلت لأحدهم هذا الشيء ملكك أو أنك تملك تلك العمارة مثلا يفزع ويقول الملك لله بافتقار لخالقه ويقين به سبحانه.
وقد جمع الله بين ملكه الحقيقي وملك البشر المجازي في آية واحدة فقال تعالى : ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِى المُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ المُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [آل عمران :26]
ولقد أكد القرآن الكريم على ترسيخ معاني الملك لله وحده باعتبارها من أهم قضايا الاعتقاد لدى المسلم، ولما لها من آثار في سلوكه مع الناس ومع الكون، قال تعالى : ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ﴾ [البقرة :107]. وقال سبحانه : ﴿َلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [آل عمران :189].
وفي سياق استنكاري على توهم امتلاك أحدهم لشيء من ملكه يقول تعالى : ﴿أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا﴾ [النساء :53]. وفي سياق الرد على من اعتقد أن المسيح عليه السلام له طبيعة إلهية أو أنه إله أو أحد أقانيمه يقول تعالى : ﴿قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِى الأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [المائدة :17]. ويقول سبحانه : ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾[المائدة :40].
ونرى أن الآيات القرآنية تربط دائما بين معنى الملك ومعنى القدرة والتصرف، إذ أنهما من آثار الملك، فمن يملك شيئا يقدر عليه ويتصرف فيه كيف يشاء، والمسلم عندما يعلم أن الكون بما فيه هو من ملك الله، يشعر بعلاقة بينه وبين هذا الكون وإخوانه من البشر، فينظر إلى الكون باعتباره مخلوقًا لخالق عظيم، وأنه يسبح لخالقه، وأنه يتفاعل مع الأحداث، يخضع خضوع المخلوقات لله وحده، وأنه يسير في تيار يساعد الإنسان الذي يسير معه ويعاكس الإنسان الذي يسير ضده وهذه جملة من الآيات التي لا تحتاج إلى تعليق توضح الأمر بجلاء ووضوح:
ومن هنا يتبين أن الكون له حقوق بما فيه من جماد ونبات وحيوان، وقد بيَّن الله لنا أننا نتفاعل معه، وأننا لسنا جزءًا منه، بل فضلنا على كثير مما خلق، وسُخرت لنا السموات والأرض جميعًا منه - سبحانه وتعالى - وأننا مكرَّمين حملنا الأمانة، ويجب أن نراعيها حق رعايتها، ومن أجل ذلك كُلفنا بالأوامر، والنواهي التي منها الحفاظ على الكون كله، ومعاملته على أنه مخلوق لله، قال تعالى : ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِى البَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾ [الإسراء :70].
واستعمال المصدر يفيد التأكيد، وهو في هذا المقام ينفي المجاز ويثبت الحقيقة، ويكون المعنى أن تفضيلهم تفضيلٌ حقيقي لا مجاز ولا تجاوز فيه.
ويرى المؤمن أن الإنسان سيد في هذا الكون، وليس سيدا له، فالسيد هو الله قال صلى الله عليه وسلم : «السَّيِّدُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى» [رواه أحمد وأبو داود والنسائي]، ولكن المؤمن وهو يسير في عبادة الله يسير سير السيد، وليس سير الجمادات : ﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الجاثية : 13]، وقال سبحانه وتعالى : ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي البَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَن تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [الحج : 65].
واستشعار المؤمن دائما أن الله وحده هو الذي يملك الخلق والأمر يورثه الافتقار إلى الله عز وجل والخضوع له، ويزداد ذلك الإيمان عندما يعلم أن الله خاطب سيد البشر وأحب خلقه صلى الله عليه وسلم بقوله : ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ﴾ [آل عمران :128]. فيتأكد المعنى ويتبرأ من حوله وقوته المتوهمين، فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فيزداد يقينه عندما يقرأ قوله تعالى : ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ﴾ [فاطر :15: 17].
إلا أننا يمكننا أن ننظر لاسم الله الملك من زاوية أخرى، وباعتبار مختلف، فيمكن أن ننظر له على أنه من القسم الأول وهو قسم الجمال، وذلك لأن الله أصبغ على بعض خلقه صفات الملك والحكم والقضاء في الحياة الدنيا، وحينئذ فعليهم أن يتخلقوا بأخلاق الملك الحق، فلا يظلموا أحدا فيتخلقوا بالعدل الذي لا مجال لتطبيقه إلا ممن حكم، ولذلك اشتهرت عبارة العدل أساس الملك، فعلى من وضعهم الله في هذه المنازل [الملك-الحكم-القضاء] أن يكونوا رحماء كما أن الملك الحق رحيما، ويكونوا منصفين عادلين كما أنه سبحانه عادلا.
وعلى هذا الاعتبار فهؤلاء يتخلقون بأخلاق الملك فيكون هذا الاسم في حقهم من قسم الجمال الذي يتخلق العبد به.
كما أن اسم الملك يمكن أن يكون من قسم الجمال لغير هؤلاء، فيكون من قسم الجمال لمن زهد في الدنيا واستغنى عنها، فالملك من الناس هو الذي يستغني عن كل شيء سوى الله وتلك رتبة الأنبياء عليهم السلام.
وقد قال أحد المريدين لشيخه : أوصني .. فقال له : كن ملكا في الدنيا، وملكا في الآخرة . فقال: وكيف ؟ قال الشيخ : اقطع طمعك وشهوتك عن الدنيا تكن ملكا في الدنيا والآخرة, فإن الملك في الحرية والاستغناء .
وقال فسر أحدهم كون العبد ملكا بقوله : « فالعبد مملكته الخاصة قلبه، وجنده شهوته وغضبه وهواه، ورعيته لسانه وعيناه وباقي أعضائه، فإذا ملكها ولم تملكه فقد نال درجة الملك في عالمه، فإن انضم إلى ذلك استغناؤه عن كل الناس فتلك رتبة الأنبياء، يليهم العلماء وملكهم بقدر قدرتهم على إرشاد العباد»
رزقنا الله الفهم عنه سبحانه ومعرفة الحقائق، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
1- أسماء الله الحسنى في الإسلام يمكن أن نبني عليها مجموعة كبيرة جدا من الأخلاق الربانية السامية، ونحتاج إلى معرفة خريطة لأسماء الله الحسنى وأقسامها، وعدد الأسماء التي سمى الله بها نفسه في القرآن الكريم 152 اسما، وعدد الأسماء التي أطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم على الله سبحانه وتعالى نحو 164 اسما، ومع حذف المكرر من هذه الأسماء ينتج عندنا 220 اسما في الكتاب والسنة.
2- أسماء الله الحسنى تنقسم إلى ثلاثة أقسام، القسم الأول : هو قسم الجمال مثل الرحمن الرحيم العفو الغفور الرءوف. والقسم الثاني : هو قسم الجلال مثل الجبار المنتقم المتكبر شديد المحال العظيم. والقسم الثالث : مثل لفظ الجلالة ومثل الأول الآخر، الظاهر الباطن، الضار النافع، المعطي المانع.
3- إن علاقة الإنسان بكل قسم من هذه الأقسام تختلف، فبالنسبة لقسم الجمال العلاقة هي التخلق، على حد قول الصالحين وهم يفسرون قوله تعالى : ﴿كونوا ربانيين ﴾ [آل عمران :79] أي « تخلقوا بأخلاق الله» وهي مقولة شاعت على ألسنة الصالحين، وليست بحديث نبوي كما توهمه بعضهم، وفضل بعض العلماء أن نقول تعبدوا بأخلاق الله، بدلا من تخلقوا؛ لأن الإنسان إذا أراد الثواب والرضا من الله فإنه لابد وأن يحسن النية وأن يفعل هذا لوجه الله مخلصا له الدين، قال تعالى : ﴿مخلصين له الدين﴾ [البينة :5] وقال صلى الله عليه وسلم : «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» [رواه البخاري ومسلم].
أما التعامل مع القسم الثاني، وهو قسم الجلال فيكون بالتعلق حيث نهانا الله عن التكبر، والتعظم، وقال في الحديث القدسي العظمة : « العظمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني واحدا منهما ألقيته في النار» [رواه ابن أبي شيبة في مصنفه]. أما التعامل مع القسم الثالث، وهو الكمال فذلك يكون بالإيمان والتصديق.
4- ولفظ الجلالة هو الجامع لكل هذه الأسماء والصفات والمعاني، وهو لفظ جليل ليس في كل اللغات لفظ يدل على الخالق أعظم منه، فمن عجائبه أنه يدل على الله بكل حروفه، فلو حذفنا الألف بقي من الكلمة «لله» ولو حذفنا اللام الأولى أيضا بقي له «له» ولو حذفنا اللام الثانية أيضا بقي الضمير هو «هو» وعلى كل حال يدل ذلك على الله على الخالق جل جلاله، وهذه خاصية عجيبة لا توجد في «ديو» الفرنسية، و«god» الإنجليزية، و«خداي» الفارسية، ونحوها.
5- والرحمة صفة من صفاته تعالى ولها من الأسماء الرحمن الرحيم. كيف نحول الرحمة إلى تعاملاتنا مع أنفسنا، ومع أهلنا، ومع زملائنا، ومع جيراننا، ومع الكون ؟ كيف نكون رحماء بالإنسان، وبالحيوان، وبالنبات، وبالجماد ؟ كيف نحول الرحمة إلى مؤسسات ؟ كيف نحول الرحمة إلى مناهج علمية ؟ كيف نحول الرحمة إلى حياة معيشة ؟ فكر فإن هذه الأسئلة قد فكر فيها المسلمون وحاولوا أن يوجدوا لها إجابة واقعية في حياتهم، وأن ينفذوها، ولم يقفوا عند حد الإيمان بها.
6- فالرحمة مع أنفسنا في تعاملاتنا نراها في قوله تعالى : ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ [البقرة :286] ، وفي قوله صلى الله عليه وسلم : «عليكم بما تطيقون، فوالله لا يمل الله حتى تملوا، وكان أحب الدين إليه ما داوم عليه صاحبه» [رواه البخاري ومسلم] ، وفي قوله صلى الله عليه وسلم : «إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق» [رواه أحمد في مسنده] وفي قوله : «هلك المتنطعون» [رواه مسلم] أي المتشددون الذين يظلمون أنفسهم، ومن ظلم النفس أيضا المعصية، يقول ربنا : ﴿وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [الأعراف :160] فمن الرحمة بالنفس البعد عن المعصية، والرحمة بالأهل نراها في قول عائشة وهي تصف الرسول صلى الله عليه وسلم ك «كان في مهنة أهله» وفي قول أنس : «خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشرة سنين فما قال لي أف ولا لم صنعت، ولا ألا صنعت» [رواه البخاري] وفي وصية الرسول صلى الله عليه وسلم : «خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي» [رواه ابن حبان في صحيحه].
7- ويحقق الإنسان الرحمة بالأهل والزملاء والجيران بتأصيل خلق الرفق الذي هو مظهر من مظاهر الرحمة، فعن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يا عائشة إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف» [رواه مسلم].
فمن حرمه الله الرفق فلا خير فيه، وهو محروم من كل الخير، لأن الرفق باب الخير، ولذا نرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا ذلك فيقول : « من يحرم الرفق يحرم الخير كله» [رواه مسلم]، وأخبر بذلك السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها، فقال صلى الله عليه وسلم : « يا عائشة إنه من أعطى حظه من الرفق فقد أعطى حظه من خير الدنيا والآخرة» [رواه أحمد]. وعنه صلى الله عليه وسلم في توصيته للسيدة عائشة رضي الله عنها : « ارفقي فإن الله إذا أراد بأهل بيت كرامة دلهم على باب الرفق» [رواه أحمد].
وقد بشر النبي صلى الله عليه وسلم الرفيق اللين السهل بالنجاة من النيران، فقال صلى الله عليه وسلم : « تدرون من يحرم على النار يوم القيامة كل هين لين سهل قريب حديث تدرون على من تحرم النار على كل هين لين سهل قريب» [رواه الترمذي]، وكان في دعاءه صلى الله عليه وسلم يطلب الرفق لمن رفق بأمته، فكان يقول : « ومن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به» [رواه مسلم].
8- وتتحقق الرحمة بالكون بأن يعلم الإنسان أنه يسبح لله، قال تعالى : ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً﴾ [الإسراء : 44]، ويسجد كذلك لله سبحانه وتعالى : ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ﴾ [الحج : 18]، وهو كذلك يدل على الله في كل مخلوقاته، حتى قال أبو العتاهية :
وفي كل شيء له آية | ** | تدل على أنه واحد |
ويحقق الإنسان الرحمة بالكون بأن يعبد الله وحده فينسجم مع الكون ويوافقه، فلا ينفر منه ولا ينفر الكون منه، فالكون كله يسير في طاعة الله طوعًا أو كرهًا. (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ) [الرعد : 15]. (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) [فصلت : 11].
9- ويحقق الإنسان الرحمة بالحيوان والنبات والجماد بالاستجابة إلى جملة أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الشأن حيث يقول : في شأن الحيوان فعن عبدالله بن عمر أن رسول الله ﷺ قال: «ما من إنسان قتل عصفورًا فما فوقها بغير حق إلا سأله الله عز وجل عنها». [رواه النسائي في سننه] وعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ: «دخلت امرأة النار في هرة حبستها ولا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض» [أخرجه البخاري ومسلم]
وعن أبي هريرة رضى الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: «بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش فوجد بئرًا فنزل فيها فشرب، ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ بي، فنزل البئر فملأ خُفَّهُ ثم أمسكه بفيه فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له» قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم أجرًا؟ فقال: «نعم، في كل ذات كبد رطبة أجر» [أخرجه البخاري ومسلم].
وعن عبدالله بن مسعود قال: رأى رسول الله ﷺ من أخذ طائر فرخه الصغير فقال: «من فجع هذه بولدها؟ ردوا ولدها إليها». [رواه أبو داود في سننه]
وفي شأن الجمادات فروى أبي بن كعب رضى الله عنه عن رسول الله ﷺ: «لا تسبوا الريح، فإذا رأيتم ما تكرهون فقولوا: اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح وخير ما فيها وخير ما أمرت به، ونعوذ بك من شر هذه الريح وشر ما فيها وشر ما أمرت به» [رواه الترمذي].
وعن أبي هريرة رضى الله عنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «الريح من روح الله: وروح الله تأتي بالرحمة وتأتي بالعذاب، فإذا رأيتموها فلا تسبوها، وسلوا الله من خيرها، واستعيذوا بالله من شرها» [رواه أبو داود].
ويروي طلحة بن عبيدالله رضى الله عنه أن رسول الله ﷺ وكان إذا رأى الهلال قال: «اللهم أهلله علينا باليمن والإيمان والسلامة والإسلام، ربي وربك الله» [رواه الترمذي]
وقال رسول الله ﷺ: «أكرموا الخبز» [رواه البيهقي في الشعب والحاكم في المستدرك]، وقال ﷺ: «أحد جبل يحبنا ونحبه» [رواه البخاري]
هذه جملة من الأحاديث في التفاعل والتعامل مع الجماد والنبات والحيوان من مئات بل آلاف الأحاديث حول هذا المعنى تبين عمق العلاقة بين المؤمن وما حوله من أكوان وتبين حقوق هذه الأكوان على الإنسان في أحكام تفصيلية تأمره بأن يفعل وتنهاه أن يأثم وكل ذلك دائر على الرحمة والرفق والحفاظ على خلق الله والتفاؤل وعدم التشاؤم
وقد تأثر المسلمون عبر العصور بهذه النصوص النبوية الشريفة فتراهم وضعوا مساقي للكلاب الضالة في شوارع المدن الإسلامية وتعبدوا بتنظيفها لهذه الحيوانات الضعيفة.
وأنشأوا مبرات للبيطرة وصيروها علما لتخفيف الألم عن الحيوان وهذا موضوع وصل من الاتساع والتشعب حتى إنه يصلح لرسالة علمية متوسعة مستقلة.
10- وتكون الرحمة في المؤسسات، بأن يسعى المجتمع المسلم لتوفير المؤسسات التي ترفق بالإنسان في حالاته مرضه وضعفه، فالاهتمام بالمستشفيات ومعاملة المريض معاملة حسنة ومراعاة حالته النفسية من الرحمة التي لابد وأن نفعلها في المستشفيات. كذلك العمل على تأهيل الملاجئ للأيتام ورعايتهم وإعدادهم بالشكل الجيد. والرحمة تكون في المؤسسات لرعاية كبار السن، وهو ما يعرف بدار المسنين، ولا أعني بدار المسنين أن يذهب كبير السن وينتزع من أهله وأبنائه ويلقى به في تلك الدار لكبر سنه، وإنما أقصد كبار السن الذين فقدوا العائل وفقدوا الرعاية، فمن الرحمة أن تكون هناك مؤسسات ترعاهم وتعمل على راحتهم والعناية بهم.
11- وتحقيق الرحمة في المناهج العلمية، بأن يستحضر المسلم الرحمة في الابتكارات والآلات والأدوات التي يحتاجها في شئونه اليومية، كما كان ذلك بارزا في حضارتنا وموروثنا، فنجد هذه الأداة التي ندفع بها الذباب مصنوعة من شعر الخيل، والدفع بها إما أن يبعدها وهو الغالب، وإما أن يقتلها ولا يكون ذلك إلا إذا كانت الحشرة تريبة وفي موضع معين. في حين أن الأداة التي عند الآخرين صنعت من بلاستيك -وقد شاعت فينا لما تركنا فلسفة حضارتنا وأنها كانت حضارة رحيمة بالإنسان والأكوان- وهذه الأداة الأخرى تقتل مباشرة، وأداتنا عند القتل لا تحطم الجسد وهذه تحطم الجسد تحطيما شديدًا، وأظن الأمر على بساطته يحتاج إلى مراجعة شاملة.
12- والرحمة بذلك كله، وباستحضارها في اليقظة والمنام، وفي المعاملات مع من حولنا تتحول إلى حياة معيشة، وسمة حضارية تشيع الهدوء والاستقرار النفسي على الأرض، نسأل الله أن يرزقنا الرحمة، ويرحمنا برحمة الواسعة، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
استكمالا للكلام عن السنن الإلهية وبعد أن تكلمنا عن سنة التكامل، نتكلم هذه المرة عن سنة التدافع، وهي سنة مأخوذة من قوله تعالى : ﴿وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ﴾ [البقرة : 251].
وهذا التعبير القرآني يبين حقيقة علو القرآن على التفاسير التي خطها البشر، فهو لم يحصر هذا في القتال أو النزاع والخصام -كما ورد في التفاسير- عبر بالتدافع ليشمل كل أنواع التعاون والاختلاف بل والصراع والصدام للوصول بكل وسيلة إلى الاستقرار وتحقيق مراد الله من خلقه : عبادة، وعمارة وتزكية.
فالتدافع سنة إلهية تبين أن الإنسان قد خلقه الله سبحانه وتعالى اجتماعيًا يحتاج إلى الآخرين، وهم يحتاجون إليه، فلم يخلقه منعزلا قادرا على البقاء وحده حتى يحقق مراد الله من خلقه، بل إنه لابد أن يعمل في فريق ليصل إلى هدفه، وعمله في الفريق وحراكه الاجتماعي ونشاطه الذاتي يحتاج إلى إدراك سنة التدافع، وإدراك هذه السنة يتولد منها قوانين كثيرة لضبط هذا النشاط والحراك، وعليه فإن عمليةً فكريةً لابد أن تسبق النشاط، وهو ما قد يكون الإنسان العصري قد افتقده حيث سبق النشاط الفكر، وكان ينبغي أن يسبق الفكر النشاط ويسبق حديث القلب أيضا الفكر ولهذا موضع آخر يشرح الفرق بين الآمرين.
وتكون سنة التدافع بمدافعة أهل الخير وجند الله، لأهل الشر والإفساد في الأرض؛ وذلك لتحقيق الصلاح والاستقرار على الأرض، فقد أوضح ربنا سبحانه وتعالى أن من آثار هذه السنة الإلهية منع الفساد في الأرض (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ) وأوضح سبحانه أن هذا التدافع الذي جعله الله تعالى بين جنده القائمين بالصلاح والإصلاح وإعمار الأرض، وبين أعدائه الفاسدين المفسدين القائمين بتخريب الأرض من أعظم نعم الله على البشرية، إذ لو تُرك الفاسد يشيع الفساد في الأرض ويستضعف الصالحين، وهم لا قوة لهم لتهدمت كل القيم وكل الأشياء الجميلة في هذا الكون، حتى أماكن عبادة الله سبحانه وتعالى، كما أخبر الحق تعالى بذلك فقال : (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحج :40].
وسنة التدافع ليست أمرًا شرعيًا بقدر ما هي حالة تحدث لتطهير الأرض ونقاءها، فإن الله لا يبقي الخبيث يقود ويسود حياة الناس أبدًا، حتى وإن مكنه من ذلك قليلاً، قال تعالى : (أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِى النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِى الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ) [الرعد :17].
فإن حق قيادة الناس يكون دائمًا للأصلح الذي يحقق الخير والنماء والرخاء لهم، بما يحقق حضارة الإنسان، التي تعلو فيها القيم الأخلاقية على الشهوات، ولذا كتب الله سبحانه وتعالى ذلك في الرسالات السابقة قبل القرآن، قال تعالى : (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِى هَذَا لَبَلاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ * وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) [الأنبياء :105 : 107].
ومن أجل تحقيق ذلك كتب الله في كونه تلك السنة التي بينا معناها وأشكالها، وموقف أهل الخير منها وأهل الفساد. ونحاول أن نتأمل سنة أخرى وهي سنة إخراج النبي من قومه والتي أشرنا إليها بإيجاز في بداية الحديث عن السنن الإلهية.
السنن الإلهية .. سنة إخراج الأنبياء
قال تعالى لنبيه ﷺ : (وَإِن كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلًا * سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا) [الإسراء :76 ،77].
وقد أخبر القرآن الكريم بأمر سيدنا إبراهيم عليه السلام بعد أن حاول قومه قتله حرقًا فخلصه الله منهم، ثم هجرهم وذهب إلى ربه، فقال تعالى : (فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ * وَقَالَ إِنِّى ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّى سَيَهْدِينِ) [الصافات :98]، وقال سبحانه عن لسان إبراهيم : (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّى عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّى شَقِيًا) [مريم :48]
وقد هاجر نبي الله لوط مرتين، مرة أول ما آمن لإبراهيم عليه السلام، قال تعالى : (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّى مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّى إِنَّهُ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ) [العنكبوت :26]، ومرة لما أرادوا أهل قريته إخراجه وجاءه الإذن الإلهي بالخروج، فقال تعالى : (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ) [النمل :56]، وقال سبحانه : (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ) [الحجر :65].
كما أراد قوم شعيب ذلك، فأخبر الله عنهم في القرآن : (قَالَ المَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا قَالَ أَوَ لَوْ كُنَّا كَارِهِينَ) [الأعراف :88].
وقد قص ربنا علينا مشهد ملاحقة جنود فرعون لموسى ومن معه، حتى خرجوا من مصر متجهين إلى الأرض المقدسة، قال تعالى : (فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ * فَلَمَّا تَرَاءَى الجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّى سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ البَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ العَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ * وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ * إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ) [الشعراء :60 : 66]
إذن فهناك رغبة ثابتة مستمرة عبر الزمان وفي مختلف الأماكن عند أهل الفساد والإفساد والكفر في إخراج الأنبياء وأتباعهم، أو في إقصائهم، أوفي إذائهم، حتى حكى الله ذلك عن الذين كفروا عامة فقال تعالى : (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِى وَخَافَ وَعِيدِ) [إبراهيم :13 : 14]، ولكن الله سبحانه وتعالى ناصر جنده، وبالغ أمره.
وقد أعلم الله نبيه ﷺ بهذه السنة في مستهل دعوته عندما أخذته السيدة خديجة إلى ابن عمها ورقة بن نوفل، وكان على اطلاع بكتب أهل الكتاب، فقال له ورقة بن نوفل بعدما قص عليه النبي ﷺ ما رآه في الغار : «هَذَا النَّامُوسُ الَّذِى نَزَلَ عَلَى مُوسَى يَا لَيْتَنِى فِيهَا جَذَعاً يَا لَيْتَنِى أَكُونُ حَيًّا حِينَ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «أَوَمُخْرِجِىَّ هُمْ ». قَالَ نَعَمْ لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ قَطُّ إِلاَّ عُودِىَ وَإِنْ يُدْرِكْنِى يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْراً مُؤَزَّراً » [رواه البخاري ومسلم].
فهاجر أنبياء الله ونصرهم الله، وأتم دينه، وأظهر كلامه على الأرض، ولا يخفى ما في إخراج الأنبياء وأتباعهم من أرضهم من معاناة ومجاهدة، فإن الأنبياء كانوا يحبون أوطانهم، وتألموا لمفارقة أوطانهم، ففي حديث عَدِىِّ بْنِ الْحَمْرَاءِ قَالَ لَهُ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ وَاقِفٌ بِالْحَزْوَرَةِ يَقُولُ : « وَاللَّهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ، وَلَوْلاَ أَنِّى أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ » [رواه أحمد والترمذي وقال حسن صحيح].
وقدم أصيل الغفاري على رسول الله ﷺ من مكة قبل أن يضرب الحجاب، فقالت له عائشة كيف تركت مكة ؟ قال اخضرت جنباتها، وابيضت بطحاؤها، وأغدق إذخرها، وانتشر سلمها –فاغرروقت عيناه ﷺ وقال تشوقنا يا أصيل. وفيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حسبك يا أصيل لا تحزني. [الخطابي في غريب الحديث]
قال السهيلي : وفي هذا الخبر وما ذكر من حنينهم إلى مكة ما جبلت عليه النفوس من حب الوطن والحنين إليه. [شرح الزرقاني].
فلما حضر أصحاب النبي ﷺ r إلى المدينة، فوُعِك بعضهم وأصابتهم الحمى، وكانوا يحنون إلى مكة ويشتاقون إلى العودة إليها، فعند ذاك قال رسول الله ﷺ: «اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، اللهم بارك لنا في صاعنا وفي مدنا» [رواه البخاري ومسلم].
فكان من الآلام التي تحملها النبي ﷺ وأصحابه مفارقة أوطانهم وشدة حنينهم إليها، وأنهم ما خرجوا منها إلا أن قومهم أخرجوهم.
نتعلم من هذه السنة الإلهية أن الإنسان يضحي بكل غال ونفيس في سبيل تحقيق مراد الله من نشر دينه، وإقامة التوحيد على الأرض، ونتعلم أن المسلم لا ينبغي له أن يتابع هواه، بل يتبع أوامر الله ومراده حتى وإن خالفت هواه في فراق الأحبة والأوطان.
ولنتأمل مرة أخيرة في سنة من سنن الله في الكون وفي الأمر، وهي سنة التوازن.
السنن الإلهية .. سنة التوازن
وهي سنة قد أشار الله إليها كونيا، قال تعالى : ﴿وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ﴾ [الحجر : 19]، وقيميا قال تعالى : ﴿وَأَقِيمُوا الوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُوا المِيزَانَ﴾ [الرحمن : 9]، وقال سبحانه : ﴿اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ﴾ [الشورى : 17]، وقال تعالى : ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ [الحديد : 25].
ونرى مرة ثانية أن الاستقرار هو الأساس الذي يجب أن ينتهي إليه النشاط الإنساني بعد التوتر الذي يبدأ به، وإذا تحدثنا عن مثل هذه السنة لرأينا أنها سنة كونية وسنة قيمية، ونأخذ منها موقفنا من قضايا البيئة وموقفنا من قضايا الفكر، وموقفنا من مفهوم العدل خاصة إذا رأيناها تمتد إلى الآخرة والحساب وتمثل دالاً على عدل الله سبحانه، قال تعالى : ﴿وَنَضَعُ المَوَازِينَ القِسْطَ لِيَوْمِ القِيَامَةِ﴾ [الأنبياء : 47]، وقال سبحانه : ﴿وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الحَقُّ﴾ [الأعراف : 8].
والذي لابد للإنسان أن يتمثل به ثم يأتي التكليف على وفق هذه السنة مشيرا إلى أن التكليف بالأحكام مرتبط ارتباطا تاما بالسنن الإلهية المحيطة بنا، وأن تطبيق هذه الأحكام من خلال فهمنا للسنن وتفاعلنا معها هو الضامن لتحقيق هدفها والوصول إلى مقاصدها يقول تعالى : ﴿فَأَوْفُوا الكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [الأعراف : 85].
فالتوازن هو التوسط بين الإفراط والتفريط في كل الأمور، وهذا التوسط هو من خصائص هذه الأمة المحمدية الخاتمة، يقول تعالى : (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) [البقرة :143]. والوسط هو الأجود والمختار والأعلى كذلك، يقول ابن كثير في تفسيره «والوسط هنا: الخيار الأجود، كما يقال: قريش وسط العرب نسباً وداراً، أي: خيرهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وسطاً في قومه، ولما جعل الله عز وجل هذه الأمة وسطاً خصها بأكمل الشرائع، وأقوى المناهج، وأوضح المذاهب» [تفسير القرآن العظيم لابن كثير].
الوسطية أو التوازن تساهم في بناء المسلم متوازن النفس، متزن العقل، سليم الصدر، النافع لمجتمعه ووطنه، ولقد قامت وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت في عهد وزيرها الأستاذ الدكتور عبد الله معتوق المعتوق بعمل أمانة لمشروع الوسطية، وجعلت عليه أمينًا عامًا هو المفكر الإسلامي والعالم الكبير أ.د عصام البشير وزير الأوقاف السابق بدولة السودان، وهذه الوسطية كمنهج حياة، وكفكر ديني، هي التي ينبغي أن تشيع في الفكر الإسلامي الآن، وهي التي من خلالها صدر بيان عمان الذي اعترف بالمذاهب الإسلامية كلها، والذي كان بيانه الافتتاحي من فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر، والذي تأكد وتأيد في اجتماع منظمة المؤتمر الإسلامي في مكة المكرمة في شعبان سنة 1426هـ الماضي، والذي وقعه أكثر من مائتي عالم ومرجع من مراجع الفقه الإسلامي في العالم.
فالتوازن إذن سنة إلهية نتعلم منها الكثير، نتعلم منها الإنصاف، وقول الحق في الغضب والرضا، ونتعلم منها التفكير المستقيم، ونتعلم منها بناء العقلية العلمية، وترك عقلية الانطباعات.
ولعله قد اتضح طريق المسلمين في هذا العصر شديد التغير بتأملنا في تلك السنن الإلهية التي تناولنا كل واحدة منها بشيء من الحديث المفصل، وإن لم نكن قد وفيناها حقها، فالسنن الإلهية كما ذكرنا ينبغي أن يكون لها علما مستقلاً يتم دراسة كل هذه السنن التي ذكرناها فيه، وأيضا يتم استنباط سنن أخرى من كتاب الله، ويتم تناولها علميًا حتى يساهم هذا العلم -الذي نسأل الله أن يوجد بين علوم المسلمين في السنوات القليلة المقبلة- في بناء المسلم المعاصر القادر على نشر دينه والالتزام به ونفع بلاده ومن ثم نفع البشرية كلها.
وفيما يلي سوف نرى كيف يمكن أن نستفيد من السنن الإلهية في توضيح التعامل مع القضايا المعاصرة، والفرق بين التناول الإسلامي المتحضر لها، والتناول الغربي، فإلى لقاء.(يتبع)
أراد الله من خلقه الصلاح والإصلاح، وذلك لخير أنفسهم فهو لا يحتاج إلى أحد، والخلق كله في حاجة دائمة إليه سبحانه، ولقد تكلمنا في سلسلة مراد الله عن مبادئ مهمة، ونكتفي بما ذكرناه من أهم المبادئ التي تعلمنا مراد الله من خلقه، ونبدأ في هذه المرة في سلسلة جديدة لا تقل أهمية عن سلسلة مراد الله من خلقه، وهي سلسلة «السنن الإلهية» إذا لو فهمنا عن الله سننه في كونه وفي خلقه وفي أمره لرزقنا الله الحكمة، فنسأل الله أن نكون ممن شاء لهم الحكمة، قال تعالى : (يُؤْتِى الحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ) [البقرة :269].
وقد قام كون الله تعالى الفسيح على قوانين وقواعد ثابتة لا تتخلف، فليس بمقدور أحد من البشر أن يغير هذا النظام الكوني الذي حكم الله به، ولله تعالى سنن أمضاها وأبقاها في كونه تجري على خلقه وهي السنن الربانية، وهي كثيرة منها على سبيل المثال : سنة إخراج الكافرين للأنبياء من ديارهم قال تعالى : (وَإِن كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلًا * سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا) [الإسراء :76 ،77].
وفي الحديث الشريف عندما ذهب النبي r إلى ورقة يخبره بما رآه فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ : «هَذَا النَّامُوسُ الَّذِى نَزَلَ عَلَى مُوسَى يَا لَيْتَنِى فِيهَا جَذَعاً يَا لَيْتَنِى أَكُونُ حَيًّا حِينَ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r «أَوَمُخْرِجِىَّ هُمْ ». قَالَ نَعَمْ لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ قَطُّ إِلاَّ عُودِىَ وَإِنْ يُدْرِكْنِى يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْراً مُؤَزَّراً » [متفق عليه].
وهناك سنة انتصار أهل الصلاح والإعمار من المؤمنين على أهل الإفساد والتدمير من المعاندين المتكبرين الكافرين، وفرارهم مهزومين (وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيًا وَلاَ نَصِيرًا * سُنَّةَ اللَّهِ الَتِى قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) [الفتح :22 ، 23].
وسنة عقاب المستكبرين والماكرين المفسدين في الأرض، فإن الله تعالى لا يدع الظالم يفلت بظلمه ويمر بجرمه آمنًا قال تعالى : (اسْتِكْبَارًا فِى الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلاَ يَحِيقُ المَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا) [فاطر :43].
وقد تكون سنة الله في أمره الشرعي، كما أمر نبيه بالزواج من طليقة ابنه بالتبني زيد بن حارثة، وكان التشريع الجاهلي عند العرب حرمة هذا، فأمر الله نبيه وهو رأس قيادة الدين بفعل ذلك حتى يكسر هذا التشريع البائد في قلوب العرب، فقال تعالى : (مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِى الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا) [الأحزاب :38].
وغير ذلك الكثير من تلك السنن التي لا تتخلف ولا تتبدل بل هي ماضية بأمر الله وقدره قال تعالى : ﴿`s9ur yÅgrB Ïp¨ZÝ¡Ï9 «!$# WxÏö7s? ﴾ [الأحزاب : 62] ﴿`s9ur yÅgrB Ïp¨ZÝ¡Ï9 «!$# WxÏö7s?﴾ [الفتح : 23] ﴿sp¨Zß «!$# Îû tûïÏ%©!$# (#öqn=yz `ÏB ã@ö6s% 4 tb%x.ur ãøBr& «!$# #Yys% #·rßø)¨B ﴾ [الأحزاب : 38] ﴿`n=sù yÅgrB ÏM¨YÝ¡Ï9 «!$# WxÏö7s? ( `s9ur yÅgrB ÏM¨YÝ¡Ï9 «!$# ¸xÈqøtrB﴾ [فاطر : 43] ﴿wur ßÅgrB $oYÏK¨YÝ¡Ï9 ¸xÈqøtrB﴾ [الإسراء : 77]
فتتسم سنن الله سبحانه وتعالى بالثبات وباطرادها عبر الزمان والمكان، فهي لا تتغير ولا تتبدل، وتلك السنن الإلهية بثباتها واستقرارها كونت فطرة الله التي فطر الناس عليها، وكانت جزءا من مكونات عقل المسلم تساعد في التعامل مع الكون وفهمه، وتتضح سنن الله الكونية من مطالعة كتاب الله المسطور (القرآن الكريم) فهو دليل التعامل مع كتاب الله المنظور (الكون)، وكتاب الله المنظور هو برهان الإيمان بكتاب الله المسطور، فكلا الكتابين لا غنى عنهما في الوصول إلى رب العالمين وبلوغ سعادة الدارين.
فما اتضح لنا سمات سنن الله وأشكالها، يجعلنا نؤكد على أن دراسة السنن الإلهية بل واستقلال علم بدراستها وبيان علاقتها مع المبادئ العامة القرآنية تكون عقل المسلم، فدارسة السنن الإلهية أصبح واجبًا يمكن أن يفيد الإنسان والإنسانية بنظرة جديدة لمجموعة العلوم الاجتماعية والإنسانية ويمكن بهذه النظرة أن تتهيأ لتجديد علمي واع للخطاب الديني.
ولقد ألف المرحوم الشيخ محمد الصادق عرجون عن السنن الإلهية، ودعا الشيخ رشيد رضا في المنار إلى الالتفات إليها، ومن المحدثين تكلم عنها د. جمال عطية، وكتبت السيدة زينب عطية موسوعة لها، وللدكتور عبد الكريم زيدان كتاب مستقل، وهناك إسهامات د. مصطفى الشكعة وتلامذته في هذا الشأن، أما الدكتور سيف عبد الفتاح في كتابه مدخل القيم يعد محاولة جادة رصينة لبدء تكوين هذا العلم الذي قد يصل بنا إلى بناء علم أصول فقه الحضارة بعد أن وضع الشافعي علم أصول فقه النص الشريف.
ولمعرفة سنن الله في الكون فوائد عظيمة في حياة المسلم؛ حيث إنه يتمكن من الفهم عن الله في كونه، ومن التسليم والرضا بقضائه، ومن الاستفادة من هذه السنن في تنظيم منهج حياته للوصول إلى ربه وخدمة أمته.
السنن الإلهية .. سنة التكامل
نتكلم بشيء من التفصيل عن سنة إلهية مهمة، وهي سنة التكامل، والتكامل يعني أمورًا، الأول : أن المخلوقات بها نقص جبلي، فيحتاج كل مخلوق إلى باقي المخلوقات في منظومته حتى يحقق الوظائف التي به معاشه وسعادته. والثاني : أن الله تنزه عن الاحتياج إلى زوج يكمله، وتفرد بالقيومية، وجعل خلقه أزواج في حاجة في الظاهر إلى بعض، وفي الباطن في فقر دائم وحاجة مستمرة له سبحانه، فقال تعالى : (سبْحَانَ الَّذِى خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ) [يس :36]. والثالث : أن أساس العلاقة بين الإنسان وأخيه الإنسان هي التعاون وليس العداء، بل إن أساس العلاقة بين الإنسان والكون هي التفاعل والصلاح والتكامل، مما يؤكد على ما استقر في عقلية المسلم من أن الصراع طارئ، وأن الأساس التكامل. والرابع : أن ما دام الأمر كذلك فعلى المسلم مسئولية كبيرة في هذه الأرض، وهي عودة الاستقرار والسلم إليها، وإنهاء حالة الصراع والنزاع، فتلك المفاهيم التي تترتب على سنة التكامل لو اطلع عليها من يهاجم الإسلام بغير علم، لاعتذر للأمة في ثراثها وفي تاريخها، واهتدى بها في سيره لإصلاح العالم بأسره. الخامس : أن يتواضع الإنسان لخالقه سبحانه، حيث يدرك الإنسان نقصه واحتياجه لكل ما حوله، فهو في حاجة دائمة للهواء الخارجي للتنفس، وللماء للشرب، وللطعام للأكل، وللنوم، ولقضاء الحاجة، وللزوجة، وللأبناء، وللأصدقاء، والله هو الذي يغني الإنسان بتوفير كل ذلك له، فيتواضع لعظمة الله ويتقين من فقره، ويعلم أنه غير قادر على الاستقلال بعيدًا عن الله وفضله.
الكثير من الفوائد والمعاني العظيمة تخبرنا بها تلك السنة الإلهية المهمة، مما يجعل تلك السنة منهجًا متكاملاً للتربية والصلاح وعمارة الأرض وإفشاء السلام.
فإن الله قد خلق الأكوان مختلفة في ظاهرها، لكنها متحدة في الهدف والغاية، فهذا الخلاف والاختلاف إنما هو للتنوع وليس للتضاد، فالليل والنهار يشكلان يومًا واحدًا، لكل منهما خصائص، والذكر والأنثى لكل منهما خصائص، ولكل منهما وظيفة، والحاكم والمحكوم لكل منهما وظيفة، والغني والفقير، وأغلب الثنائيات الخلقية أو القدرية، فالخلقية كالليل والنهار والذكر والأنثى، والقدرية كالحاكم والمحكوم والغني والفقير، سميناها قدرية لنفرقها عن الخلقية، وإن كان فيها سعي للإنسان واختيار وكسب، إلا أنها من فضل الله وقدره أيضًا.
نحتاج إلى فهم عميق لسنة التكامل، فإن في فهمها الخير الكثير، وفي ترك فهمها، وعدم القدرة على استكشافها الشر الكثير، فإن فهم سنة التكامل يجعل أصل الخلق عند المسلم هو التكامل وليس الصراع، ولذلك يفهم العلاقة بين الذكر والأنثى على أنها خلقت للتكامل، بخلاف التوجه الذي يدعو إلى أن الأصل هو الصراع، وأنه يجب على المرأة أن تصارع الرجل لتحصل على حقوقها، وأن المحكوم يجب أن يصارع الحاكم للحصول على حقوقه، وأن الإنسان يجب أن يصارع الكون حتى يحصل منه منفعته، على ما استقر في الفكر الإغريقي من فكرة صراع الآلهة وانتصار الإنسان في النهاية عليها.
وفهم سنة التكامل لا ينفي حدوث الصراع أو إمكانية حدوثه ووقوعه، ولكن هناك فرق بين أن نجعله أصلا للخلقة لا يمكن الفرار منه، وبين أن نجعله حالة عارضة يجب أن نسعى لإنهائها حتى تستقر الأمور على الوضع الأول الذي خلقه الله.
هذا التكامل هو الذي يفرق عند فهمه بين المعنى الروحي للجهاد في سبيل الله وبين الحرب التي تشن هنا وهناك لأجل المصالح والهيمنة والاستعلاء في الأرض والفساد فيها أيضًا.
قال تعالى : ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾ [النساء : 1]، وقال سبحانه : ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِّتَبْتَغُوا فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً﴾ [الإسراء : 12]، وقال تعالى: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ المُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [آل عمران : 26]، وقال تعالى : ﴿وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِياً وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [الزخرف : 32].
وهذا التكامل هو الذي يجعل العلاقة بين الرجل والمرأة مآلها إلى السكن والسكينة، وإلى المودة والرحمة، وإلى التعاون وعمارة الأرض بالنسل الصالح القوي، يقول تعالى : (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الروم :21].
ذلك التكامل الذي يجعل الحاكم والمحكوم في خندق واحد أمام كيد الكائدين، ويجعل الحاكم رفيقا رحيما بالمحكومين، راعيا لشئونهم، قائما بمسئوليته على أكمل وجه، حيث يتمثل كل حاكم وصية الإمام علي بن أبي طالب لمالك بن الأشتر حين ولاه مصر، عندما قال له : «واشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم ولا تكونن عليهم سبعًا ضاريًا تغتنم أكلهم فإنهم صنفان إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزّلل وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك الله من عفوه وصفحه». والتكامل يجعل المحكوم متعاونًا متفهمًا لحاكمه، معرضًا عما لا فائدة من ذكره، مقبلاً على صالح بلاده ونمائها.
إنه التكامل الذي يجعل صاحب العمل يتعاون مع العمال، وصاحب رأس المال يتكامل مع القوة البشرية التي تدير المشروع، فلا يكون هناك بين صاحب المال بحيث يطمع ويستغل ظروف سوق العمل، ولا يكون هناك ضغط من العمال لأخذ ما لا يستحقون، بل يتعاون الجميع على تنمية اقتصاد البلاد وصالح أحوالهم المعيشية بما يرضي الله.
إنه التكامل الذي يجعل صاحب البناء متعاون ومتفاهما مع المستأجرين، فيتعاون الجميع على نظافة وجمال بنايتهم، فيصبح الحي كله نظيفا جميلا، ومن ثم تكون البلد كلها متحضرة عنوان على نظافة المسلمين وتعاونهم
ذلك التكامل هو الذي يجعل الغني يساعد الفقير، ويجعل الفقير منتجًا ويتخلص من فقره، ويجعل الشعور السائد بين الأغنياء والفقراء الحب والتعاون، فلا يرى الغنى في نفسه فضلا على الفقير، ولا يرى الفقير في نفسه دناءة.
هذا التكامل الذي إذا ما تم في كل تلك المجالات، يتحقق فينا وصف المصطفى إذ يقول: «ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى عضوا تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى» [أخرجه البخاري ومسلم].
هذا التكامل الذي أراده الله لصلاح الناس وإصلاح الأرض وإعمارها، رزقنا الله فهم سنة التكامل وتطبيقها على الأرض آمين.
ما ترك الله لنا طريقًا يبلغنا رضاه وجنته إلا وقد أرشدنا إليه، وحثنا عليه رسوله الكريم صلوات الله عليه وسلامه، وما ترك لنا طريقا يؤدي بنا إلى النار إلا وحذرنا منه وأحدث لنا منه ذكرا، وتركنا رسول الله على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
فلما زاع الناس عن المحجة البيضاء شاع الفساد، وفشت الفتن من حولنا، تلك الفتن التي وصفها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : (يخرج في آخر الزمان رجال يختلون الدنيا بالدين، يلبسون للناس جلود الضأن من اللين، ألسنتهم أحلى من السكر، وقلوبهم قلوب الذئاب، يقول الله عز وجل : أبي يغترون ؟ أم علي يجترئون ؟ فبي حلفت، لأبعثن على أولئك منهم فتنة تدع الحليم منهم حيرانًا) [رواه الترمذي]. وفي ذلك تصديق لقوله تعالى : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ) [الأنفال :25].
ذلك الحليم الذي يفكر فلا يعرف قابيل الفتن من دبيرها، يحاول أن يعلم أين هو منها، فإذ به وكأنه في ظلمات بعضها فوق بعض، كموج البحر، قال تعالى : (ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّور)ٍ [النور :40]، فهي فتن يصبح الرجل فيها مؤمنًا، ويمسي كافرًا، ونحن إذ في هذه الحالة نريد أن نعتصم بحبل الله، ونتعلق بسفينة النجاة التي توصلنا إلى الله بإذنه تعالى.
لابد أن نحاول معرفة أسباب ما يجري من حولنا، فإن العصر اتسم بالإنجاز الذي قد سبق الأخلاق والقيم، وسبق النشاط الفكر والتفكر والتدبر، وقدمت المصلحة على الشريعة، وتقدمت اللذات على عبادة الله، فكان الناس في العصر على ثلاثة أنحاء : فاجر قوي، وعاجز تقي، ومؤمن كامل وفي.
أما الفاجر القوي فقد تمكن اليوم من العالم، وأراد أن يثبته فكره الذي يقدم الإنجاز على القيم والأخلاق، فهذا الرجل الذي كان يحكم أكبر دولة في العالم علم بفضائحه وسوء أخلاقه الكبير والصغير، ولكن عقلية شعبه لا ترى مع ذلك ضررًا خاصة طالما أنه ما زال ينجز وينجح في عمله، فماذا يتعلم أولادنا من هذه القصة من غير كلام، يتعلمون أن النجاح هو القوة والإنجاز حتى وإن كان فاجرًا.
وفي المقابل نرى تربية الله ورسوله لنا على غير هذا الشأن، فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يريبينا أن نكون أقوياء، وأن نأخذ بيد العاجز منا ونصل به إلى القوة، فالعجز مذموم خاصة إن كان في عبادة الله وعمارة الأرض وتزكية النفس، غير أن المؤمن العاجز خير من الفاجر القوي عند الله، وينبغي أن يكون كذلك عند الناس، فالمؤمن يمتلك القيم والأخلاق، والإصلاح الطهر الذي يكون به الحضارة الإنسانية الحقيقية.
ومبدأ الإنجاز الذي نذمه هو أن يكون وحده المعيار مع مخالفة الأخلاق والقيم والثوابت، أما الإنجاز مع الالتزام بكل ذلك هو مطلوب ومأمور به في شرعنا، لم يكن الغرب بدعًا في اعتماد مبدأ الإنجاز المذموم، وإنما سبقهم إلى ذلك من الأمم البائدة قوم عاد، حيث تودد لهم نبيهم هود عليه السلام كما حكى عنه القرآن ذلك فقال : (إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوَهُمْ هُودٌ أَلاَ تَتَّقُونَ* إِنِّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ العَالَمِينَ) [الشعراء : 124 : 127] وأدرك هود أنه قومه فتنوا بمنجازاتهم فأراد أن يذكر أنها نعم الله وأن الله سوف يزيدها إذا أنتم آمنتم به، فقال لهم : (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَاتَّقُوا الَّذِى أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ [الشعراء :128 : 133].
فتمسكوا بشرعية النظام الذي هم عليه، وتمسكوا بما قد ورثوه وقرروه، ولو كان مخالفا لمراد الله ورسوله، وقالوا حسما للقضية (قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُن مِّنَ الوَاعِظِينَ * إِنْ هَذَا إِلاَّ خُلُقُ الأَوَّلِينَ) [الشعراء :136 ، 137].
يبدو أننا قد دخلنا في دائرة عاد، حيث عبثنا إذ جعلنا الإنجاز قرين القوة، وجعلنا العجز قرين التقوى، والله لا يحب أن يتقدم الفاجر القوي على العاجز التقي، ولا يحب من التي أن يستمر على عجزه.
فينبغي على المسلم أن يقدم المقدم، ويؤخر المؤخر، فيقدم المسلم الكيف على الكم، والتقوى على الإنجاز، ويقدم الجار قبل الدار، فهو دائما يقدم الإنسان على البنيان، رزقنا الله الرشد، والصواب، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
ومن مراد الله من عباده .. النخبة (أهل الذكر)
في محاولة للبحث عن المخرج من الفتن التي تحيط بنا، والتي أرى أن سببها الأساسي البعد عن مراد الله في التلاعب بالألفاظ، والاستخفاف بأمر الطعام، ومعاجزة الله في آياته وكونه، وتقديم الإنجاز على الأخلاق.
نبحث عن النخبة كمحاولة للخروج من الفتن، تلك النخبة التي أرشدنا الله للاستفادة من خبرتها فقال تعالى : (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) [النحل :43], فالله تعالى أمرنا أن تكون لنا نخبة، فضيعنا النخبة، والنخبة قد تكون طاغية، وقد تكون صاغية.
أما الطاغية فالتي تأمر بالمنكر وتنهى عن المعروف وتتجبر في الأرض وتكفر بالله رب العالمين، وأما الصاغية فالتي صغت قلوبها لذكر الله لا تريد علوا في الأرض ولا فسادا، لقد استبدلنا بالصاغية الطاغية، أهلكنا الصاغية وأخرناهم عن القيادة وعن العمل في الحياة الدنيا وقدمنا الطاغية ثم بعد ذلك اختلط الحابل بالنابل، فلا الطاغية بقت ولا الصاغية حلت محلها وأصبح الناس شذر مذر لا ملأ لهم ولا أهل ذكر يرجعون إليهم ويلتقون حولهم.
كان هذا بدعوى الشعبية والديمقراطية، وأن العصر هو عصر تلك السماتالتي تخالف سنن الله في خلقه، ولا يقوم بها المجتمع ولا تستقر بها نفس ، فالتساوي المطلق الذي تدعو إليه الديمقراطية، هو أحد إفرازات النسبية المطلقة، وهو أمر مرفوض.
وأن القضاء على النخبة والدعوة إلى التساوي المطلق، قد تتضمن في طياتها هلاك العالم، وهناك مجموعة من النصوص التي يمكن أن تكون أساسًا لهذا المعنى، قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِى المَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [المجادلة :11]
وقال تعالى : (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ) [البقرة :253] وقال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِى الأَمْرِ مِنكُمْ) [النساء :59] فجعل الله للناس رؤوسًا، وجعل ذلك طبقا لكفاءاتهم، ورغبتهم في الإصلاح دون الإفساد، ونعى على ذلك التصور الذي يكون فيه جميع الناس في تساو مطلق فقال : (لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا) [الرعد :31] وقال : (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحج :40]
وعدم التساوي لا يعني أبداً عدم المساواة، فربنا يقول : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً) [ [النساء :1]
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : (الناس كأسنان المشط) [رواه القضاعي في مسند الشهاب، والديلمي في مسند الفردوس] وقال صلى الله عليه وسلم : (يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى) [رواه أحمد والطبراني في الأوسط والكبير].
ووجود النخب والصفوة يؤدي إلى حل المشكلات، وإلى الأمن والاستقرار بين الناس، وفتنة الإسكندرية الأخيرة لم تكن في حاجة إلا إلى نخبة تتدخل فتوقفها، والانفلات الحاصل في الفضائيات سواء في مجال الفتاوي أو البرامج الدينية من ناحية، أو الفساد العريض الداعر من ناحية أخرى، كان يمكن حله بمجلس الحكماء إلا أننا نرى هجمة شرسة لا تستثني أحدًا برؤوس مصر وحكمائها، تتبنى ذلك التيار الذي يريد اقتلاع النخبة، والقضاء على الصفوة، غير مدركين أن الصفوة إذا ذهبت ذهب معها الأمن والاستقرار والتقدم، وأدت إلى الحيرة والاضطراب.
فهذا التيار الذي يدعونا لإذابة النخبة، وأن نكون كلنا نتكلم في كل التخصصات، ودعوى أحقية كل الناس أن يكونوا متخصصين بغير علم، وكأنهم يريدون أن نكون كلنا أطباء، وكلنا فقهاء، وكلنا فلكيين.
فإن ما يدعونا إليه غير متصور، وغير مفهوم فضلا عن أن يكون موجود، ورغم عدم إمكانية تطبيق هذا الهراء إلا أن هذه الدعوى تسببت في عدم احترام النخبة، والاستخفاف بهم، والنظر إلى وظيفتهم على أنها وظيفة لا قيمة لها، ولا أدري في مصلحة من ما يحدث ؟ إني لا أرى فيه مصلحة إلا لمن يسعون لإضعافنا وتهميشنا من مسيرة الحضارة الإنسانية الحديثة.
فتبين مدى خطورة إذابة النخبة والتخلص منها، والدعوى إلى الشعبية والتساوي المطلق، الذي هو أحد إفرازات النسبية المطلقة، ولكننا فعلا وقعنا في تحطيم النخبة، وينبغي علينا أن نعمل على إعادتهم مرة أخرى.
واتضح أن هذه الدعوى لا تعتمد على تجربة بشرية مستقرة، فهم يدعونا إلى شيء جديد لا نعرف ملامحه ولا إلى أي طريق يقودنا إليه، وما النتائج أو المصائب التي ستترتب عليه، وذلك أنه مخالف لسنة الله في كونه، من أنه سبحانه فضل بعض الأزمان على بعض، وفضل بعض الأماكن على بعض، وفضل بعض الأشخاص على بعض، وفضل بعض الأحوال على بعض، وجعل من هذا التباين سببًا لدفع الناس، وتعارفهم، ولعمارة الأرض، ولحراكهم عبر حركة التاريخ.
فإنشاء أهل الذكر واجب علينا كأمة، وعودتهم مرة أخرى للقيادة وللملأية ولأن يكونوا نخبة الناس أمر حتمي لرقي البلاد والعباد، والنخبة لا علاقة لها بعرق ولا جنس ولا علاقة لها إلا بالعلم والخبرة والصلاح والإصلاح، فالشرع جعل للصلاة إمامًا واحدًا، وأرشد أن يلي هذا الإمام في الصلاة أصحاب العقول الراجحة وأهل الصلاح والإصلاح، وقال صلى الله عليه وآله وسلم : (إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا عليهم أحدهم) [رواه أبو داود في سننه]
بعث في السنة الثامنة من الهجرة عتاب بن أسيد, وفي التاسعة أبا بكر. وخرج بنفسه في العاشرة، وكان إذا خرج في بعث أو سرية خلف أحدًا من أصحابه من بعده على الناس في المدينة، فخلف ابن أم مكتوم لينوب عنه صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة.
فعلمنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن نحترم النخبة، وأن نحافظ عليها، وعلمنا كيف نوجدها، فهي توجد بالعلم والكفاءة والصلاح، فليس لأبيض على أسود ولا لعربي على أعجمي فضل إلا بالتقوى.
وعلى أساس تكوين النخبة في المجتمع الإسلامي برزت قيمة من القيم الأصلية في الحضارة الإسلامية، وه «المرجعية»، والتي تعد أحد أهم مكونات عقلية المسلم، وأبرز سمات النموذج المعرفي الإسلامي، التي يُعبر عنها بالتخصصية.
تلك التخصصية إذا عادت وأصبحت سمة في الثقافة الإسلامية المعاصرة، ومكون حقيقي في عقول المسلمين لحسمت النازعات، وغلقت الأبواب على مبتغي الفتنة والفوضى والإرجاف؛ فإسناد الأمر إلى أهله من المتخصصين يؤدي إلى تنمية المجتمع وتقدمه في كل مجالات الحياة، أما إذا سارت الفوضى إلى حياتنا الثقافية وتكلم كل أحد في كل شيء عم الفساد، وهو ما عبر عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم «بنطق الرويبضة» حيث قال : (تأتي على الناس سنوات خداعات يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة. قيل يا رسول الله : وما الرويبضة ؟ قال الرجل التافه يتكلم في أمر العامة) [أخرجه الحاكم في المستدرك].
وتفشي كلام غير المتخصصين في تخصصات دقيقة، ودعوى أن كل أحد من حقه الكلام في كل الأمور تؤدي بنا إلى حالة من الضبابية والتيه، فلا نتمكن من رؤية أية أمر على حقيقته، ونتسائل فيما بيننا : هل أخبرنا النبي بهذا الحال العجيب الغريب العظيم ؟ وإذ بحديث سمرة بن جندب رضي الله عنه في علامات الساعة يجيب عن هذا التساؤل حيث قال : (ولن يكون ذلك كذلك حتى تروا أمورًا عظامًا يتفاقهم شأنها في أنفسكم، وتساءلون بينكم هل كان نبيكم ذكر لكم منها ذكرا) [أخرجه ابن حبان في صحيحه] فهذه الحالة الثقافية التي نمر بها والتي لم تستقر بعد ولم تتحدد مفاهيم كثيرة فيها والتي خرج الرويبضة ليساهم فيها ويتكلم في الشأن العام من التصدر للنصيحة حتى الطبية منها إلى الإفتاء ولو بغير علم مع أنه لم يحفظ آية كاملة إلا في قصار السور إلى تولي المناصب العامة، إلى الكلام في الشيوعية البائدة أو الفن الجديد، إلى من يريدنا أن ننسلخ عن أنفسنا وديننا وتاريخنا إلى من يريد إرهاباً فكريا، إما هو وإما الجحيم، ثم جحيمه هي الجنة، وأن جنته هي الجحيم؛ لأنه دجال من الدجاجلة ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن الدجال : (يخرج الدجال معه نهر ونار، فمن وقع في ناره وجب أجره وحط وزره، ومن وقع في نهره وجب وزره وحط أجره) [أخرجه أحمد وأبو داود].
وللطعام آداب تهذب النفس وتشير إلى صلاح المتأدب بها وإلى فساد المتخلي عنها، فمن آداب الطعام أن تتوسط درجة حرارته، فلا يكون شديد السخونة ولا شديد البرودة، وأن يأكل الإنسان مما يليه، ولا يملأ بطنه بالطعام، فيترك للنفس والشراب مكانًا.
ومن آدابه أن يحسن الإنسان مذاقه، فنتقي الأطيب والأزكى وقد أشار القرآن الكريم إلى مثالين لتأكيد ذلك المعنى، الأول للعصاة المعاندين لرسولهم، فقال تعالى : (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِى هُوَ أَدْنَى بَالَّذِى هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ) [البقرة :61]. فكان من أخلاقهم أنهم تخيروا الطعام الأقل في الجودة والمذاق والقيمة الغذائية على الطعام الأفضل، بما يشير إلى علاقة بين سوء فهمهم للطعام وتذوقه، وبين عصيانهم وعنادهم ومشغابتهم التي وسموا بها عبر القرون، بما يجعلنا نؤكد على أن للطعام أثر في هذا الكون، في تصرفات الإنسان، وفي الاستجابة لأوامر الله، وفي وضعه الاجتماعي والكوني، وقد فجمع القرآن -في آية واحدة- بين سوء ذوقهم وفهمهم بتخير الطعام الأخس على الأعلى، وبين كبير جرمهم مع الله بقتل أنبيائه، حيث عقب ذلك بقوله تعالى : (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ) [البقرة :61].
أما المثال الثاني فكان للصالحين وهم أهل الكهف، قال تعالى : (فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا) [الكهف :19]، فهؤلاء الصالحين اهتموا أن يكون الطعام زكيًا طيبًا، بل أزكى الأطعمة التي يمكن أن تشترى بهذه القيمة ، فكان من الممكن أن تكون طول فترة النوم سببًا في عدم الاهتمام بتخير الطعام الأزكى، وكانت شدة الجوع مبررًا لهم لأكل أي شيء دون تميز، إلا أنهم أثبتوا أن أخلاقهم عالية مهذبة، ومن أسباب هذا العلو وذلك التهذيب تخيرهم للطعام الأزكى، فكانوا يتخيرون إذا تحدثوا من الكلام أزكاه، رضي الله عنهم، ونفعنا بهم وبسيرتهم في الدنيا والآخرة.
وفي ذلك كله إشارة لما في الطعام الزكي الطيب من آثار أخلاقية وسلوكية إيجابية تترتب عليه، كما أن الطعام الذي يأتي من الغصب والسرق، وكذلك لا يكون طيبًا في نفسه وفي مذاقه له من الآثار السلبية على خلق صاحبه وسلوكه.
وقد أشار الله في شأن الطعام في القرآن إلى جرم تحريم الحلال، وأنه لا يقل جرما من تحليل الحرام؛ وذلك لأن كلاهما مرجعهما عقلية واحدة، وهي عقلية عدم الاكتفاء بالشرع، إما بالزيادة أو النقصان، فالطيبات من الرزق أحلها الله للناس كافة، فيشترك جميع الخلق من الأكل من مائدة الرحمن، وهي الكون الفسيح، فالكل كفل له رزقه ورزقه من الطيبات في هذه الدنيا، أما في الآخرة فإن هذا الرزق يكون خالصا للمؤمنين وحدهم قال تعالى : ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِى الحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) [الأعراف :32]
ولقد حرم اليهود بعض الأطعمة بناء على أن سيدنا إسرائيل (يعقوب) حرمها على نفسه بعض الوقت، ولقد أخبر بالقرآن أن تحريم هذه الأطعمة -حيث كانوا ينكرون على النبي صلى الله عليه وسلم أكله للإبل وهي محرمة عندهم- لم يكن بالتوراة، فقال سبحانه : (كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًا لِّبَنِى إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) [آل عمران :93]
فللطعام مكانة عظيمة وقد قرنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بذكر الله باعتبار أنهما من مظاهر الفرحة وشكر النعمة خاصة في الأعياد فقال صلى الله عليه وسلم : (أيام أكل وشرب وذكر الله عز وجل) [رواه أبو داود].
لعلنا بذلك نكون قد وقفنا على جانب من قيمة الطعام والإطعام في الشرع الشريف، وأثره في أخلاق المسلم وسلوكه، فهذه علاقة حقيقية ولا يشككنا في ثبوتها أن الغرب لم ينشئ (علم نفس الطعام) حتى الآن، فإن كتاب ربنا ينطق بالحق، وهو كنز يمتلأ بالآيات البينات التي ترشد الإنسان إلى سعادة الدنيا والآخرة.
ومن مراد الله من عباده – عدم المعاجزة
المعاجزة : هي المعاندة والمحاربة ومحاولة تعجيز رسل الله وشرعه ومراده في الكون، والمعاجز صاحب عقلية مصارعة، ونفس خبيثة، لا يُسلم لله، فيخرج من أمره الشرعي ويتحدى آيات الله وأوامره لإمهال الله له، وقد توعده الله بسوء الخاتمة إذا ما استمر على ذلك الحال، فقال تعالى : (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِى آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الجَحِيمِ) [الحج :51]
والمعاجز يحاول الخروج عن أمر الله الكوني كذلك، فيسعى لتغيير جنسه، ولإطالة عمره، وإلى تغيير خلق الله، وكأنه يمتثل امتثالا شديدا لأمر الشيطان له بذلك، كما حكى ربنا ذلك في كتابه فقال تعالى : (إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثًا وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَانًا مَّرِيدًا * لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا * وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِيَنَّهُمْ وَلآمُرَنُّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا) [النساء :117 : 119].
وقد نهى الله عن المعاجزة في آياته، والمعاجز في آيات الله هو نقيض المؤمن الذي سلم بآيات الله، فالمعاجز لا يصدق ولا يسلم ولا يرضخ لحكم الله وأمره، قال تعالى : (وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِى الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُوْلَئِكَ فِى ضَلالٍ مُّبِينٍ) [الأحقاف :32].
وقال سبحانه وتعالى : (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِى آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الجَحِيمِ) [الحج :51]، وقال سبحانه : (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِى آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ) [سبأ :5]، وقال جل شأنه : (وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِى آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ فِى العَذَابِ مُحْضَرُونَ) [سبأ :38]
فالناس فريقان، فريق فهم عن الله وطبق، وفريق رفض أن يفهم وعاجز وصار مفسدا في آيات الله التي خلقها من حولنا في كونه الفسيح، فوصفهم الله بأنهك (أصحاب الجحيم) وذلك لمقارنتهم فيها ودوامهم على ذلك الحال، فمن داوم على شيء كان صاحبه، فالمسألة ليست هينة وليست سهلة، وليست مجرد أحكام لا أثر لمن امتثل بها، ولمن خالفها، وإنما هي رؤى كلية للكون والإنسان والحياة والعقيدة، غايتها إنزال الله حيثما يستحق أن ينزل في قلوب العباد، ويستحق أن تسلك أيها المسلم سلوكك في الحياة الدنيا مرتبطًا بهذا الفهم وتلك العقيدة.
فالإنسان ضعيف ويلجأ إلى الله في الشرق والغرب على ما يدعيه من إلحاد، ومن موت الإله، ومن خرافة الأديان، يظهر ذلك اللجوء إلى الله عند الفزع والخوف والضرر، قال تعالى : (وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ) [الزمر :8]، فعندما شاع الإيدز في بلاد الغرب قالوا : إنها لعنة السماء، وتكلموا عن اصطدام الإنسان بحائد القدر، يعني صرحوا بالعجز مع الله، هم يسمونها (حائط القدر) وربنا يسميها المعاجز.
ومن أكبر الأمثلة التي ضربها الله في كتابه للمعاجزين (قارون) الذي ظن أنه ما به من قوة ومال هو استحقاق له، وأنه على علم عنده، وأنه لا يمكن أن يزول، فنسى الله، فأنساه الله نفسه، قال تعالى : (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُوْلِى القُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الفَسَادَ فِى الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُفْسِدِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الفَسَادَ فِى الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُفْسِدِينَ* قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِى أَوَ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ المُجْرِمُونَ [القصص :76 : 87].
فماذا كانت عاقبة ذلك المعاند ؟ قال تعالى : (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ * وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكَافِرُونَ* تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًا فِى الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [القصص :81]
(أوتيته على علم عندي) لم تكن هذه مقالة قارون وحده، وإنما هي مقالة كل إنسان مغرور بالدنيا وبما آتاه الله منها، قال تعالى : (فَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ) [الزمر :49]
فالمعاجزة إذن حالة وهمية يتوهم فيها الإنسان المغرور أمورًا منها : أنه له قوة أصلا وله ملك ذاتي، ولا يعلم أن القوة جميعا لله، وأن الله المالك وحده، ثم يتوهم أن ما يظهر عليه من قوة هي من الله، ومن ملك هو لله، توهم أن ذلك لا يمكن أن يزول منه، ويتوهم أنه قادر على إبقائه وحراسته، ثم يتوهم بعد ذلك أن هذه القوة التي توهم أنها ذاتية وأنها باقية أنها تقوى على معاندة أمر الله.
فالإنسان مقهور بقدر الله وأمره، وإن توهم غير ذلك، قال تعالى : (أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) [آل عمران :83]، وقال تعالى : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ) [الرعد :15]
والله سبحانه هو القدير الذي لا يعجزه شيء في السموات والأرض، ولقد أكد الله تلك الصفة، فقال تعالى : (وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ) [الأنفال :59].
وضرب الله الأمثال لذلك من التاريخ والآثار، فقال سبحانه : (أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِى الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِى السَّمَوَاتِ وَلاَ فِى الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا) [فاطر :44].
وقد تيقن فريق الجن الذي سمع القرآن أنه لا يعجز الله، ولا يمكنه الهروب منه، قال تعالى حكاية عنهم : (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعْجِزَ اللَّهَ فِى الأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَبًا) [الجن :12]، و(ظننا) هنا ليست على معناها الأصلي من عدم التأكد، وإنما هي بمعنى (علمنا) و(تيقنا)، وذلك كقوله تعالى : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) [البقرة :46]، وقوله سبحانه : (وَظَنَّ أَنَّهُ الفِرَاقُ) [القيامة :28].
فالله خلقنا وأمرنا بعمارة الأرض، وحد لنا حدودا، وأمرنا بأوامر ونهانا عن نواه، وينبغي على العاقل أن يقف عند حدود الله، وأن يأتمر بأمره، وينتهي عن نواهيه، فإن التعامل مع أوامر الله ونواهيه فرع على معرفة الله سبحانه وتعالى والعلم به، فلابد أن يتقين المسلم أن الله هو الفعال لما يريد، وأنه على كل شيء قدير، وأنه تقدست ذاته، وسما قدره، لا مثيل له، ولا ند له، ولا ضد له، ولا يعجزه شيء.
فمن حاول مبارزة الله بالمعاصي أصيب بالوباء والبلاء، ثم يرد إلى يوم القيامة فينال الجزاء الأوفر، وقد صدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حين تحدث عن خمسة أصناف من هؤلاء المعاجزين، ويحذر المهاجرين من ذلك فيقول : (يا معشر المهاجرين خمس إن ابتليتم بهن أعوذ بالله أن تدركوهن، لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعملوا بها إلا ظهر فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا الزكاة إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط عليهم عدوهم من غيرهم وأخذوا بعض ما كان في أيديهم، وما لم يحكم أئمتهم بكتاب الله إلا ألقى الله بأسهم بينهم) [أخرجه الحاكم في المستدرك]
فلا يمر المعاجزون في كون الله وآياته بلا عقاب في الدنيا قبل الآخرة، وصدق الله تعالى إذ يقول : (وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ * وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَ لَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ) [إبراهيم :42 ، 43].
فتدبر أيها المؤمن كتاب ربك، واعلم أنه قد أنزله ليخرجك من الضلالة إلى الهدى، ومن الظلمات إلى النور، رزقنا الله الاستقامة والإيمان والتسليم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
أراد الله من خلقه الامتثال إلى أوامره والابتعاد عن نواهيه، لما في هذه الأوامر من خير عميم يعود على العباد والبلاد، ولما في هذه النواهي من شر وبلاء يفسد الأرض، فالله ليس بحاجة لنا، فهو يأمرنا بما ينفعنا، وينهانا عما يضرنا.
فماذا أراد الله من عباده ؟ أراد منه الخير والنفع لهم والصلاح والإصلاح، وتأكيدًا لهذا المعنى نبدأ الحديث في سلسلة تساهم في تشييد بناء الإنسان، ألا وهي سلسلة مراد الله من عباده، ولتكن أولى حلقات تلك السلسلة هي (عدم التلاعب بالألفاظ).
فلعل التلاعب باللغة وألفاظها من أهم أسباب الفساد الذي ملأ الأرض، وضج منه جميع الصالحون، بل والعقلاء من كل دين ومذهب، فإن التلاعب باللغة يفتح علينا أبواب شر كبيرة، حيث يُستحل الحرام، ويُحرم الحلال، ويُأمر بالمنكر ويُنهى عن المعروف، وذلك كله عكس مراد الله من خلقه، يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : (إن ناسًا من أمتي يشربون الخمر يسمونها بغير اسمها) [أخرجه الحاكم في المستدرك].
فرسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك البيان النبوي لا يريد أن يشير إلى تلك الكبيرة وهي شرب الخمر فحسب، بل إنه يتكلم عن تلك الصفة التي ستظهر في آخر الزمان وهي التلاعب بالألفاظ، والتي يترتب عليها تضييع الأحكام الشرعية، فيستحل الناس الذنوب والكبائر، فالخمر تسمى مشروبات روحية مثلاً، والزنا يسمى حرية الحياة الخاصة، أو حرية الممارسة الجنسية، ولذلك يظن الناس أن أحكام الله عز وجل لا تنطبق على تلك المسميات الجديدة، رغم أن الحقائق ثابتة.
إن الأساس الفكري الذي نؤكد عليه دائمًا هو ضرورة أن تقوم اللغة بوظائفها التي تبرر وجودها أصلا، فإن للغة ثلاث وظائف أساسية، أولى تلك الوظائف هي : الوضع بمعنى جعل الألفاظ بإزاء المعاني، فهو أمر لا بد منه حتى يتم التفاهم بين البشر.
وثاني تلك الوظائف هي الاستعمال : وذلك أن المتكلم يستخدم تلك الأصوات المشتملة على حروف لينقل المعاني التي قامت في ذهنه إلى السامع، وهنا تأتي الوظيفة الثالثة والأخيرة وهي الحمل : والتي تعني حمل تلك الألفاظ على مقابلها من المعاني التي سبق للواضع أن تواضع عليها، وقد قرر العلماء عبارة موجزة توضح ما ذكرناه، فقالوا : (إن الاستعمال من صفات المتكلم، والحمل من صفات السامع، والوضع قبلهما).
وينبغي أن يسود ذلك الأساس الفكري في التعامل مع اللغة ليواجه أساسًا فكريًا آخر أصّل الفساد عن طريق التلاعب بالألفاظ، ولعل ما ظهر من مدارس ما بعد الحداثة الفكرية تأصيلاً لذلك الأساس الذي يقرر التلاعب بالألفاظ
فترى تلك المدارس أن عملية الوضع ينبغي أن تكون مرنة لا تتقيد بالموروث، ولا يقتصر هذا المفهوم على اتساع اللغة طبقًا لزيادة مساحة عالم الأشياء، والأشخاص، والأحداث، والأفكار، والنظم، وهو الاتساع المتفق عليه نظراً وعملاً، بل مقصودهم تغيير دلالات الألفاظ بحيث تزداد مساحة الحرية الفكرية.
وترى بعض المدارس المتطرفة من مدارس ما بعد الحداثة أن هناك خمسة أشياء يجب أن تزول حتى يستطيع الفكر البشري أن يبدع، وأن ينطلق بدون أي عائق وهذه الخمسة هي : الثقافة، والدين، والأسرة، والدولة، واللغة. ورفع سلطان الثقافة السائدة أمر سيؤدي إلى الاتجاه نحو (النسبية المطلقة) التي تدعو هذه المدارس الفكرية لتبنيها، والتحرر من سلطان الدين قد تم من قبل في الحضارة الغربية، والأسرة أصبحت تطلق عندهم على أي اثنين، فلم يعد المعنى زوج، وزوجة، وابن، وابنة، أب، أم، عائلة.
فهم يعدون هذا من المعاني المعجمية أي التي وجدناها في المعجم اللغوي، ومن هذا المدخل أصبح الشذوذ الجنسي ـ الذي لعن عند عقلاء البشر دع عنك الأديان كلها ـ من حقوق الإنسان، ورفع سلطان الدولة وأن يستبدل بها الجمعيات غير الحكومية ومؤسسات المجتمع المدني يحتاج إلى تغيير النظام القانوني والاجتماعي، بل قوانين الفكر والنموذج المعرفي والإطار المرجعي. أما إنهاء سلطان اللغة فهو أمر مفزع حقاً
فنحن لا نهاجم السلوك البشري في هذه الذنوب (الزنا والشذوذ وشرب الخمر) فحسب، فإن ذلك السلوك يمكن أن يزول بالتوبة والرجوع إلى الله إذا كان الأساس العقائدي والفكري سليم، وإنما نهاجم بالأصالة ذلك الأساس الفكري والفلسفي الذي مهد لانتشار ذلك الفساد العريض.
ومن أمثلة ذلك التلاعب إطلاق لفظة الحرية على التفلت، وهي في الحقيقة كانت تدل أول ما أطلقت على إنهاء العبودية والرق بين الإنسان وأخيه الإنسان، أصبحت الآن كلمة تعني التفلت من كل شيء، وكان هذا التلفت الذي يدعون إليها مبرر الإبداع والفن والجمال.
والحقيقة أننا خرجنا عن حدود الجمال وحدود الفن إلى بعض سمادير السكرانين، والسمادير هي هذه الخيالات المريضة التي يراها السكران أثناء سكره، فهل لهذه الحالة من إفاقة قبل ضياع المسلمين ومن ثم البشرية بأسرها ؟
فللتلاعب بالألفاظ أثر كبير على استحلال الذنوب، كما أنه يؤثر سلبًا على منهج التفكير وإمكانية إدارة الحوارات والمناقشات، حيث يتسبب التلاعب بالألفاظ في خلق حالة من الصراع الفكري والعقائدي، ولنأخذ مثالاً على ذلك وليكن تعري المرأة وإظهارها أجزاء من جسدها، ففي حين ما يسميه الإسلام كشفًا للعورة تأثم به المرأة ويحاسبها الله عليه، يسميه دعاة التفلت جمال وجذابية، ويتولد عن ذلك في أذهان الناس أن المسلمين يرفضون جمال المرأة وجذابيتها، فيكره الناس الإسلام وعلماء الإسلام بدون وعي.
فهم لا يصفون الواقع بشكل صحيح، فإن الإسلام استحب للمرأة أن تتجمل وتظهر جمالها، ولكن في إطار التكليف الإسلامي وتشريعه، وفي إطار الحياة الزوجية، والإسلام يهدف في ذلك لصيانة المرأة، وأنها ليست جمالاً مباحًا لكل أحد، بل هي تتزين وتجمل لمن اختارت وأرادت في إطار العقد الشرعي بينها وبينه، ويشيع بذلك ثقافة عامة تساعد على الامتثال بالتكاليف التي حددها كحرمة الزنا، أو الأمر بغض البصر، أو النهي عن الخلوة المحرمة.
وترتب على ذلك أن علماء الإسلام كرهوا التطور الغربي وكل ما يأتي به من تغيير لمعاني الألفاظ التي كان متفق عليها، حيث إن الخطر الحقيقي ليس في انتشار الذنوب فحسب، فإن الذنوب والمعاصي موجودة في المجتمع الإسلامي منذ العصر الأول وحتى بين الصحابة، ولم يخل عصر منها، بل يكمن الخطر الحقيقي في التلاعب بالألفاظ، بحيث تسمى الذنوب بغير أسمائها مما يجملها في عيون الناس، ويدفعهم للإقدام عليها، وكم استغلت كلمة الحرية والجمال وتحقيق الذات في خداع المرأة المسلمة، واستمالتها لكشف عورتها لاستفادة جهات أخرى تتاجر بهذا التعري المقيت.
فقد أدى هذا التلاعب بالألفاظ إلى أن المرأة التي تكشف عورتها تعتقد أن ما تفعله لا يخالف الدين الإسلامي، وأن الدين الإسلامي لم يأمرها بتغطية جسدها، فهذه المرأة الطيبة -التي وقعت في المعصية بسبب الخلط- تؤمن بأن الدين الإسلامي أمر بكل جميل، وليس من المعقول أن يتعارض الإسلام مع الجمال، ومع أن تكون المرأة جميلة، وهي تقصد أن الجمال هو كشف عورتها لجميع الناس.
فأدى التلاعب بمعنى كلمة الجمال، واستخدامها بمعنى كشف العورة المحرم إلى ذلك الخلط عند نساء المسلمين، ولو كانت الأشياء تسمى بأسمائها لما تولد هذا الإيمان الفكري بذلك الذنب الذي تفشى في المجتمعات الإسلامية، وكان من يقع في تلك المعصية أو غيرها يعلم أنه مذنب وأنه مخالف لشرع الله ويجب عليها أن يتوب، وهذا ما نريده أن يعلم المخالف لشرع الله أنه على ذنب يُخشى عليه، وأن يضع التوبة إلى الله ضمن أولويات مشاريع حياته اليومية، نسأل الله أن يتوب علينا وعلى جميع المسلمين.
وقد أشار القرآن الكريم إلى جريمة التلاعب بالألفاظ في كثير من آياته، فمرة يشير إليها بنفس العملية وهي تسمية الأشياء بغير أسماءها، فذكر القرآن أن من سبب ضلال الناس عن منهج الله، وعبادتهم غيره سبحانه أنهم صنعوا تماثيل من الحجارة وسموا تلك التماثيل آلهة، قال تعالى : (مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ) [يوسف :40].
ومرة أخرى يشير القرآن الكريم لهذه الجريمة بلفظ التلبيس الذي هو إدخال الحق في الباطل، وقد نهى الله عنه في كتابه في كثير من آياته من ذلك قوله تعالى : (وَلاَ تَلْبِسُوا الحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة :42] فنعى على أهل الكتاب ذلك السلوك، وكرر لهم ذلك حيث قال : (يَا أَهْلَ الكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [آل عمران :71] . بل ذكر ربنا أن ذلك التلبيس قد يصل لحد قتل الإنسان ولده وهو لا يرى أنه قد ارتكب إثمًا، وقد قال تعالى في ذلك الشأن : (وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ المُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوَهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ) [الأنعام :137].
فنشأ بين أهل الحق الذين تمسكوا بمعاني الألفاظ، ورأوا ضرورة قيام اللغة بوظائفها الأساسية وبين أهل الزيغ والضلال الذين سعوا للتلاعب بالألفاظ ودعوا إلى عدم وجود معان ملزمة ورأوا النسبية المطلقة- نشأ بين الفريقين صراع فكري، لعدم الاتفاق على قاعدة واحدة في النقاش، وبعد ذلك تحول إلى صراع اجتماعي ومن بعده سياسي، وبدأ الصراع العسكري في الظهور بين أبناء الحضارة الإسلامية والعربية وبين الغرب، كان كل ذلك من آثار التلاعب بالألفاظ، أو من آثار التأصيل الفكري للخروج عن اللغة وعن مراد الله، والله أمرنا أن نفهم الألفاظ كما وضعها الواضع، فياليتنا نعود إلى مراد الله ونبتعد عن التلاعب باللغة وألفاظها.
ومن مراد الله من عباده .. إطعام الطعام
يقلل كثير من الناس من شأن هذه الفضيلة التي حث عليها ربنا في كتابه، ودعا إليها رسولنا صلى الله عليه وسلم في سنته، ألا وهي فضيلة إطعام الطعام، بل أصبح كثير من الناس لا يجعلها خالصة لوجه تعالى، فترى منهم من يعد الطعام لإقناع عميل بشراء سلع، ويسميه (عشاء عمل) كما شاع بين طبقة رجال الأعمال، بل ترى آخرين يعدون الطعام ويضعون فيه السم القاتل لاغتيال الناس، كما حاولت المرأة اليهودية فعل ذلك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما ذكر لنا التاريخ ذلك في بعض المذابح.
وكل تلك الصور تعتبر خروجًا عن مراد الله من إطعام الطعام، فالله أمرنا أن نطعم الطعام للناس لوجه تعالى، قال تعالى : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُورًا) [الإِنسان :8 ، 9]. بل إن أطعام الطعام لا يقتصر على الفقير والمحتاج والمسكين والأسير -وإن كانوا هم أولى من غيرهم- بل يمتد ليكون سلوكًا اجتماعيًا يشيع في المجتمع فتكثر المودة والمحبة والترابط بين أفراده، ولقد أكد رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا السلوك فور وصوله المدينة، حيث قال : (يا أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام) [رواه ابن حبان، وأخرجه الحاكم في المستدرك وقال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه].
ولعل تلك النصوص توضح أهمية الطعام في الإسلام، ولا يخفى أن قصة آدم عليه السلام في القرآن بينت نكد أكل الطعام المخالف وجعلته سببًا للطرد من الجنة قال تعالى : (فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ) [الأعراف :22]. وقال الحسن البصري رضي الله تعالى عنه : «كانت بلية أبيكم آدم أكله، وهي بليتكم إلى يوم القيامة».
كما أن الطعام الحلال في نفسه، والذي جاء بطريق حلال يؤهل صاحبه أن يكون من الصالحين، وأن يكون ممن يستجاب دعاؤه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم : (أطب مطعمك تكن مستجاب الدعاء) [رواه الطبراني في الأوسط]، فتحري الطعام الطيب في نفسه بأن يكون ممن أباحه الله، وكذلك يكون طعمه طيب، ويكون قد وصل إلى الناس من طريق حلال (الكسب المشروع).
والإنسان الذي يخرج بالطعام عن مراد الله هو الذي لا يبالي من حلاله كسبه أو من حرام ؟ ولا يبالي هل الطعام في نفسه مما أحل الله أم لا ؟ وهل الوقت الذي يأكل فيه الطعام مما أباح الله له الأكل (فالمسلم ممنوع من الأكل في نهار رمضان) ؟ فإذا لم لا يراعي كل هذه الأشياء تدنى بنفسه وبإنسانيته وبشريته، ويشابه غير البشر من الحيوانات التي تأكل دون أن تراعي أي نظام، غير أن تلك الحيوانات لا تحاسب بعدم مراعتها هذه، ولقد ذكر ربنا سبحانه وتعالى ذلك الشبه في كتابه، فقال تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ) [محمد :12].
وقد يسأل سائل عن وجه شبه أكل الكفار بالأنعام ؟ فالحقيقة وجه الشبه هو أن الحيوان لا يرى قيودًا ولا ضوابط على شهواته ورغباته والتي منها رغبته في الطعام، فيأتي شهواته في أي وقت من أي طريق بأي شكل، وأساس رقي الإنسان أنه يرى أن هناك قيودًا وضوابط على رغباته وشهواته والتي منها رغبته في الطعام، فهناك قيود شرعية تبين إطار قضاء تلك الشهوات أو الرغبات، وهناك قيود اجتماعية تحدد له الشكل المقبول في مجتمعه لأدائها، فإذا ألغى الإنسان تلك القيود والضوابط فهو عندئذ يتدنى إلى درجة الحيوانات.
وذلك يجعلنا نلاحظ أن الإنسانية والحضارات البشرية كان سموها ورقيها الحقيقي هو الرقي الأخلاقي، والذي يعبر عن الالتزام بالقيود الدينية والاجتماعية، وأن معنى الحرية المغلوط الذي يروج إليه، حيث يعرف الغربيون الحرية بأنها : غياب الحواجز والقيود أمام رغبات الإنسان، هو في الحقيقة رجعية مقيتة، ولكنها ليست رجعية تؤدي بالإنسان لعصور الظلام فحسب، بل تؤدي به إلى حياة الحيوانات وقوانين الغاب التي نسأل الله أن لا تصل إليها البشرية في يوم من الأيام. (يتبع)